شيء من الضمير
والآن لزم البحث عما بقي من الضمير، ذلك أن الصبر لم يعد ممكناً على حرب تباعد فيها النصر واستحالت التسوية السياسية.
إن السبب واضح وهو أن السلطة الشرعية أرخت الحبال لجماعة الإخوان المسلمين الذين يتصدرهم جنرال اعترف في لقاء صحفي أنه كان بمثابة المسؤول الأول في المرحلة التي انتفض ضدها الشعب، والمعنى أن أغلب الويلات جاءت منه، ومنه بعد ذلك جاء الوعد بالخلاص عندما انزلق من السفينة وراح يخاطب الثوار ويصرف الأموال لنصرة الانتفاضة على أيدي متعهدين من حزبه. وها هو جيشه الآن واقف منذ أربع سنوات على مرمى كيلومترات من صنعاء دون أن يتقدم شبراً واحداً.
الآن لزم البحث عما بقي من الضمير، فالشعب لا يتحمل والبلد لا يطيق. وليس من مخرج، ليس من جواب للضمير الحي غير تقييم ما جرى خلال الحرب الطويلة، وإعطاء إجابة صادقة وشجاعة حتى نستطيع أن نواصل الحرب ونصل إلى ذروة النصر بسرعة وشجاعة، أو أن تسكت البنادق ونترك للحوثي وجماعته أن يخوضوا في غمار الاستبداد حتى ينتفض الشعب وينتصر لنفسه.
لنعد إلى البداية، إلى ما قبل قرقعة السلاح في 26 مارس 2015، بل وإلى قبل ذلك، إلى جنين المؤامرة وهي لا تبدأ في الحرب الأولى على الدولة اليمنية سنة 2004 وإنما تمتد جذورها إلى أعقاب نجاح الثورة الإيرانية ومخططها للوثوق إلى بلدان في محيطها العربي. غير أن هذه مهمة مراكز الأبحاث والمؤسسات المعنية بمساعدة صانع القرار في اليمن ودول الخليج.
ولست على علم إن كان هناك جهد جماعي يبذل في بناء استراتيجية واحدة لصيانة الأمن القومي منذ انخرطت دول التحالف العربي في حرب مشتركة على اليمني، لكني على استعداد أن أجزم أن السائد في الحقب الماضية هو اهتمام كل دولة منها بأمنها القومي مستقلاً عن الأمن الجماعي. كان ذلك سبباً أساسياً في أنها أفاقت على صوت الرصاص يئز من شمال اليمن، ولعلها لم تنظر للخطر بالجدية الواجبة قبل أن تسقط صنعاء في أيدي المليشيا.
لقد تدخلت دول التحالف بطلب مُلح من القيادة اليمنية، وحتى بدون هذا الطلب فقد كان لديها من الوجاهة والمشروعية ما يعفيها من أي مساءلة قانونية أمام المجتمع الدولي، لأن الخطر يتهددها مجتمعة وفرادى، ثم إنه التزام بميثاق الضمان الجماعي العربي.
إن الخوض في هذا الموضوع يقود إلى دروب عديدة لا تعنيني الآن، ويهمني أن أطل من شرفة بعيدة لأرى العلامات الكبيرة التي نشأت منذ مارس 2015. فخلال ساعات قليلة تم تدمير القوة الجوية والصاروخية ومراكز الاتصال التي استولت عليها المليشيات من الجيش اليمني.
كانت تلك الضربات تمهيداً لا بد منه لهجوم بري وشيك أعلن عنه المتحدث باسم قوات التحالف.
ومن الأسابيع الأولى برزت ظاهرة سوف يكون لها أسوأ الأثر على مسار الحرب والمآلات التي انتهت إليها حتى هذه الساعة، فقد تمت عمليات إنزال جوي للأسلحة والذخائر والأموال بمواقع تتواجد فيها تجمعات تقودها شخصيات معروف انتماؤها للإخوان المسلمين. وبدا واضحاً أن الدليل إليها قيادات تنفيذية في السلطة الشرعية.
وبينما كانت الوحدات العسكرية النظامية تشق مساراً صعباً في حرب شرسة على مختلف محاور القتال، وجهت الإمكانيات لإنشاء ألوية عسكرية تحت قيادات حزبية؛ حتى ظهر جيش موازٍ يقود كتائبه وألويته موظفون حكوميون وأصحاب حوانيت، ومتبطلون يحملون على اكتافهم رتباً عسكرية كبيرة، وشرائط حمراء دون أن يطرقوا أبواب الكليات العسكرية وكليات أركان الحرب.
إلى هذه القوات ذهب العتاد والمال في وقت كان قادة الألوية النظامية المحترفون يعانون الويلات كي يحصلوا على الذخيرة وعلى مرتبات الضباط والأفراد.
أسوأ من هذا فقد استدارت المليشيات الإخوانية ووجهت البندقية إلى الجيش النظامي وإلى صدور المدنيين، اللواء 35 في تعز والمدينة القديمة مثالاً ساطعاً.
على الساحل استطاع الجيش النظامي بدعم من القوات الإماراتية، وكتائب من الجيش السوداني تحرير عدن وأراضي الجنوب، قبل أن تتوغل في الساحل الغربي إلى أن توقفت على مشارف ميناء الحديدة قبل ستوكهولم، بينما كان الآلاف من مجندي الإخوان يسبحون في النعيم ويكدسون السلاح.
لقد كان مسار الحرب طويلاً ودامياً ومسار التفاوض متقطعاً ومريباً. والحال أن موازين القوى على الأرض تحدد مواقع القوة على مائدة التفاوض. وفي وقت ما عندما كانت القوات الحكومية تتقدم ببطء تعثرت ثلاثة أشهر من التفاوض في الكويت، فرغم التفاهمات احتفظ الحوثي بقلمه في جيبه، لكن عندما وصل الحبل إلى رقبته في الحديدة؛ وضع إمضاءه وهو يضمر النكوث والتملص، رغم أن الاتفاق كان ينزع عنه الحبل. ولقد أمضى الوفد الحكومي على مضض بينما كان وضع قواته قوياً بما يكفي بأن يرمي ورقة الاتفاق في وجه المبعوث الأممي، غير أن الضغط الدولي كان قاسياً ومريراً. والآن بات مؤكداً أن الحوثيين لن يلتزموا بذلك الاتفاق الناقص.
الآن تقول الصورة إن الحوثيين تحولوا من مليشيات إلى قوة ثابتة على الأرض. على الناحية الثانية يظهر الارتباك والعجز عن إقامة النموذج المغري للدولة، فإن المرئي أن الإخوان أقاموا إمارة في مأرب، ونصف إمارة في تعز، بينما يعبث مخلبهم (القاعدة) في عدن وأبين وشبوة. ولذلك فإن الأمور لن تستوي دون أن تفك الشرعية ارتباطها بهم.
ولقد آن أن يصحو ما بقي من ضمير وإلا فإن اليمن ذاهبة إلى التشظي وإلى حروب بين ملوك الطوائف لا تنتهي حتى يجيء ملكا اراغون وقشتاله، فرديناند وايزابيلا.