«الإخوان» وفعلتهم باليمن
«الإخوان المسلمون» في اليمن حكاية مرعبة، كل المشاكل والمصائب والمآسي والدواهي والويلات التي أصابت هذا البلد خلال العقود الخمسة الماضية وراءها هذا التنظيم، الكثير منها بعمله المباشر، والكثير الآخر بتأثير حضوره في الحياة السياسية والاجتماعية.
وجه التأثير الأول أن «الإخوان» سايروا الأنظمة الفاسدة ومالؤوها، والأنظمة لاءمت سياساتها معهم فأحلت ما أحلوا وحرمت ما حرموا، والوجه الآخر أنهم وفروا البيئة لنمو قوى واتجاهات ألحقت الأضرار بالبلاد وأوصلت اليمن إلى ما وصل إليه اليوم.
الحكاية طويلة ومعقدة فيها مشاهد من أفلام الرعب التي تشتهر بها السينما الأمريكية وفيها من المكر والخبث ومن العجائب والشخوص أيضاً، فبين قيادات «إخوان اليمن» وجوه يتواضع أمامها راسبوتين، الراهب والدجال الروسي الشهير، بل لعله يعد بالقياس لهم ناسكاً وزاهداً.
«الإخوان» عالم مغلق تصعب رؤيته من الداخل بتفاصيله، والمتاح هو الاطّلاع على ما يخرج من ذلك المجتمع المغلق من سياسات وممارسات رهيبة، ولديهم قدرة على الإنكار، وأيضاً جرأة وإصرار على إلقاء خطاياهم فوق ظهور من يخالفهم الرأي، لكنّ قليلين ممن خرجوا من هذه الدار المغلقة تجرؤوا وكشفوا، لكنهم لم يعطوا الدنيا كل الأسرار والخبايا لأنهم لم يكونوا بالغرفة التي تتلقى الرسائل من مراكز التحكم خارج الجماعة.
ما الذي فعله «الإخوان» باليمن؟، كيف دخلوا هذا البلد ومن أي باب؟
لقد كتبت من قبل أن اليمن لا يخلق ويشع وإنما يتأثر ويستجلب، فقد أخذ النبي سليمان الملكة بلقيس برسالة واعتنق اليمنيون اليهودية والمسيحية قبل أن يلبوا دعوة الإسلام دون أن يخوضوا معه حرباً بالسيوف والرماح، على أن قابلية الاستجابة للغريب القادم من الخارج لا تفسر وحدها انتشار فكر «الإخوان» وعقيدتهم على النطاق المعروف.
إن الأفكار تطير في الهواء وتنتقل من بلد إلى بلد لا تردها حدود ولا تصدها صدود، كذلك الأوبئة تنتشر بسرعة الريح.. و«الإخوان» فكرة ووباء في الوقت نفسه، لكن من أين جاء الوباء وكيف؟
لا أهمية للالتفات إلى الأصول المغربية لمؤسس الجماعة والروايات المتواترة عن يهودية أسلافه، لأن التواتر لا يعني القطع والجزم، كما أنه ليس بالضرورة أن يكون المرء يهودياً لكي يتآمر على الإسلام والأوطان، ففي تاريخنا الراهن ثمة يهود يتعاطفون مع الفلسطينيين والعرب ويفضحون سياسة «إسرائيل» التوسعية والعنصرية كما لا يفعل كثيرون غيرهم من العرب أو المسلمين.
الأهم هو وضع الفكرة في ميزان اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها وكانت لحظة صحوة فكرية هائلة، كانت أصوات رفاعة الطهطاوي وحسن العطار ومحمد عبده تتردد في أرجاء الأزهر وفي صحن جامعه، ومن داخل القلعة الدينية الحصينة خرجت أصوات جديدة تشق بأضوائها وتبدد طبقات الظلام المتراكم من عصور الانحطاط وتنذر بإحياء فكري خلاق.
كتب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وكتب طه حسين «في الأدب الجاهلي» وكتب قاسم أمين «تحرير المرأة»، وكانت هذه إشعاعات نور تبشر بإشراقة صبح جديد في الفكر الديني يؤسس لنهضة معتبرة، فجاء حسن البنا في هذه اللحظة بدعوته كي ينشر الظلام، لكن لتوقيت ظهور دعوته دلالة أخرى خطيرة حين تقرأ من زاوية اتصالها بحدثين في غاية الأهمية.
الأول ثورة 1919 في مصر وفيها تجسدت وحدة عنصري الأمة، وتجلى الشعار البديع «الدين لله والوطن للجميع»، ولمع بين قادتها مسيحيون جوار إخوتهم المسلمين ليس ألمعهم مكرم عبيد، الذي كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب، والثاني أن هذه الوحدة الوطنية التي ظهر رسوخها خلال ثورة 1919 وما تلاها بدا أنها تهدد بإفشال مشروع آخر أكثر خطورة، وهو اغتصاب فلسطين واقتلاع شعبها. وكان اللورد بلفور وزير خارجية بريطانيا قد أعطى وعده باسم حكومة صاحب الجلالة لمنح اليهود وطناً في فلسطين، وبدأ اليهود يتدفقون إلى فلسطين حين كان العرب في غفلة من أمرهم، وسادت المخاوف من أن مصر سوف تقاوم هذا المشروع بأكثر مما تتنبه الدول العربية الأخرى لأسباب تتعلق بعزل مصر عن المشرق العربي ولأن الكيان المزمع إنشاؤه سوف يكون بمثابة الخنجر المسموم المغروس في صدرها.
معروف ما فعله «الإخوان» بمصر وما فعلوه بفلسطين وكيف استغلوا حرب 1948 للحصول على السلاح، لم يذهبوا للقتال في الأرض المقدسة وإنما تهيئة لأعمال التخريب في مصر ذاتها، لكن ماذا عن اليمن؟، في عقيدة الإخوان أن الإسلام «إسلامهم هم» سوف ينبعث ويتجدد من اليمن، قالوا بالأمس ويقولونها اليوم.
لقد حاول حسن البنا أن يطرق أبواب الحكم في اليمن قبل أن يقترب منها في مصر، وإلى هناك أرسل الجزائري الفضيل الورتلاني لتدبير انقلاب قاده مستشار الإمام يحيى حميد الدين عبد الله الوزير في 1948، ولم يكن الوزير أفضل من الإمام الذي انقلب ضده، لكنه نجح في إقناع قادة حركات الأحرار بأنه يقبل بملكية دستورية تلغي استبداد الملك.
كان الانقلاب دموياً ومرعباً قُتل فيه الإمام وبعض أبنائه وأحفاده، وهكذا اتصل «الإخوان» باليمن أول مرة عن طريق النار والدم والبارود، وللحكاية بقية.
*نقلاً عن (الخليج) الإماراتية