لم يكن محمد عودة صحفياً كبيراً فحسب، ولكنه أيضاً مؤرخ ومفكر علي القيمة، بليغ عندما يكتب وحينما يتحدث.
ولا ينفك يطوف بالقارئ والسامع في تاريخ الفكر السياسي، وفي تاريخ بلاده “مصر”، وتاريخ أوروبا، وفي أساطير الهند وحكمة الصين.
قالت لي الصحفية في مجلة “المصور”، نجوان عبداللطيف، ونحن خارجون من شقته في شارع الدقي في القاهرة، بعد عشاء كريم جمعنا وزوجها جلال عارف، نقيب الصحفيين المصريين، وآخرين، في ليلة صيف من عام 1997… قالت : إن الأستاذ عودة مفكر من وزن الدكتور لويس عوض، لولا أنه فوضوي لا يهتم بالتنظيم.
وكنا قضينا ساعات خاض بنا كعادته في بحار الفكر والتاريخ والسياسة، دون أن تفارقه النكتة.
في تلك الليلة، سألته إن كنت أستطيع أن أحصل على المقال الذي كتبه عن إبراهيم الحمدي، بعد مصرعه، وعن المقابلة التي أجراها معه.
كثير من الكتاب العرب رثى الحمدي، بمن فيهم الشاعر نزار قباني، وقد نشره في صفحة كان يحررها بمجلة “الوطن العربي”، التي تصدر في باريس، بعنوان “رفة عصفور”.
بدأ نزار المقال بهذه الجملة: “إبراهيم الحمدي موظف لدى الأمة العربية بدرجة رئيس جمهورية”.
لقد وضعه بحساسية وبصيرة في خدمة الأمة العربية، وليس اليمن وحدها.
وهي شهادة من الشاعر الذي انتقد النظام الناصري، في “دفاتر على هامش النكسة”، ثم بكى جمال عبدالناصر، في “قتلناك يا آخر الأنبياء”.
نزار؛ شاعر الحب الذي انتقل مع نكسة 67 من “طفولة نهد”، إلى “الهرم الرابع”، يثير اهتمامه رئيس الجمهورية العربية اليمنية؛ الدولة الغافية وسط الضجيج العربي.
لكن شهادة محمد عودة تكتسي أهمية خاصة، من زاوية أنه آخر كاتب عربي كبير حدثه واستمع إليه، وقد عرفت منه أنه لا يحتفظ بمقاله، ولا بحديثه مع الرئيس.
ولم أحاول أن أبحث عنهما في أرشيف “الأهالي”؛ جريدة حزب التجمع، التي كان أول رئيس لها، ومن موقعه ذاك وفد إلى اليمن، في احتفالات العيد الـ15 لثورة 26 سبتمبر، برفقة صديقه يوسف الشريف؛ المتخصص في الشؤون اليمنية والسودانية.
وكان الشريف التقى الحمدي من قبل، وحاوره.
ولا أدري كيف عجز عن إقناع صاحبه أن هذا الضابط الشاب يختلف عن غيره من الذين قفزوا من الثكنات إلى كرسي الحكم، فقد جلس عودة مع سياسيين وطنيين في صنعاء، قبل أن يحين موعده، ولم يخفِ اعتقاده بأن الحمدي عسكري طائش أغرته القوة بأن يستولي على السلطة من غير مشروع ولا رؤية.
قال إنه يعتقد أن الحمدي نسخة يمنية من جعفر النميري، وقيل له سوف ترى شخصاً مختلفاً، زعيماً وطنياً صاحب رؤية وفكر، لكنه ظل في منطقة التردد بين ما يظنه بأصحاب الميري، وما سمعه من أحاديث تنطوي على منطق، وتستند على حقائق، سواءً في إنجازاته في الداخل أو إطلالته على المحيط.
وكان الحمدي هو صاحب الاقتراح بإرسال قوات عربية تحل محل القوات السورية التي دخلت لبنان، في 1976، أثناء الحرب الأهلية، وكذلك فهو الذي دعا واستضاف قادة الدول المطلة على البحر الأحمر، وأرسل إشارة لماعة إلى أنه يدرك ويهتم بشؤون الأمن القومي في منطقة حساسة، خصوصاً وأن الصراع كان ساخناً عند القرن الأفريقي بين الإثيوبيين والإريتريين، وبين إثيوبيا والصومال.
ذهب محمد عودة، والتقى الحمدي، وخرج في حالة ذهول، وقال للذين لم يصدقهم من قبل: “مش هيسيبوه.. مش ممكن أمريكا تسمح بعبدالناصر ثاني في المنطقة”.
هذا المفكر الكبير أجلس إبراهيم الحمدي في كرسي موازٍ للكرسي الذي احتله جمال عبدالناصر في التاريخ.
والحقيقة المهملة أن جمال عبدالناصر لم يسبح في فضاء الزعامة إلا بعد 3 سنوات من ثورة 23 يوليو، عندما كسر احتكار السلاح، وهزم الأحلاف، ثم بعدها حين أمم قناة السويس، ودحر العدوان الثلاثي.
فما الذي كان يستطيعه الحمدي؟ وما هي المعارك التي سيخوضها بعد أن ينجح مع رفيقه سالم ربيع علي والقوى الوطنية، في تحقيق الوحدة اليمنية؟
ذات ظهيرة، ونحن نمشي في أحد شوارع صنعاء، ونستكمل حديثاً بدأناه على غداء، قال لي محمد عودة: “ده كان ساحر، كان صاحب رؤية صافية. قال لنا: (عايز صحيفة كبيرة زي “الأهرام”، وأنا نازل عدن، وعايزكم تجهزوا لي تصور، ولما أرجع نقعد ونشوف كيف نبدأ)”.
سألته عن أهمية هذا في مشروعه. قال: ألا تعرف أن ثورة الجزائر وحركات التحرر في أفريقيا بدأت بكلمة من إذاعة “صوت العرب”! ووافقته بأن التنمية والعدالة والدولة المركزية الحديثة وسيادة القانون والدفاع عن الحقوق العربية في فلسطين وغيرها، تحتاج إلى كلمة وراءها وقبلها، كلمة واعية وهادفة.
وقد حدث ما خشي منه محمد عودة” “مش هيسيبوه”.
ولم تتم رحلة إبراهيم الحمدي إلى عدن.
لكنما قبل الوليمة، كان شيوخ القبائل قد عقدوا مؤتمراً في يناير 1977، وخرجوا بمقررات تدعو لإنهاء حكم الحمدي، وإقامة الديمقراطية والشورى، وتوصي بالاتصال بضباط الجيش الذين ينتمون لقبائلهم، في دعوة صريحة إلى تنفيذ انقلاب عسكري.
ولم ينسوا مناشدة السعودية مساعدتهم على استرجاع حكم الشورى.
لماذا ترك إبراهيم الحمدي كل هذا الفزع في قلوبهم؟
بالتأكيد، لأنه خلق كل الأمل في قلوب الناس. .لنتذكر ونسترجع.