مقالات

العظيم محمد

 


لم يكن للعرب هوية جامعة؛ ولا حضارة خاصة بهم؛ ولا مكانة رمزية بين البشر؛ ولا تأثير يذكر في حركة التاريخ؛ كانت تتقاذفهم الأقدار والصراعات والحروب بين حضارات ذلك العصر المحيطة بهم؛ الروم والفرس؛ يقاتلون بعضهم البعض ويسلمون الجزية لحكام روما وفارس؛ كانوا مشتتين؛ مجموعات قبلية وبدوية وجنود؛ لا شيء يجمعهم؛ ولا هوية توحدهم؛ حتى جاء ذلك الشاب القرشي؛ أَبُو القَاسِم مُحَمَّد بنِ عَبد الله بنِ عَبدِ المُطَّلِب؛ فنقل العرب نقلة نوعية؛ وصنع لهم حضارة ودولة وهوية؛ امتدت شرقاً وغرباً؛ التهمت حضارات وأسقطت دول؛ ووضعت لهم مكانة في تاريخ البشرية؛ وتحولت الجزيرة العربية ومكة المكرمة الى قبلة لأكثر من مليار إنسان من مختلف الدول والأعراق؛ وأضحت العربية لغة عالمية؛ ثبتها القرآن وحماها من الانقراض والتغييرات الكبيرة التي حدثت للكثير من اللغات وتسببت في تلاشيها؛ أو تحولت وانقسمت من لهجات الى لغات جديدة تماماً.


 


لولا محمد والإسلام والقرآن لما جمع العرب شيء؛ ولكانوا تلاشوا وذابوا بين مختلف الحضارات؛ وانقرضت لغتهم؛ لولا محمد ما بكى العالم على طفل فلسطيني يقتل في غزة ولا على عجوز تضرب في القدس؛ لولا محمد ما كان للعرب شأن وحضارة وهوية دينية تنافس بقية الهويات بل ولا تزال أكثرها توسعاً.


 


كان محمد من المميزين في مجتمعه وقبيلته منذ الصغر؛ صادق أمين يحبه الجميع؛ ومن بطن من اهم واقوى بطون قبائل العرب في حينه؛ ولهم مكانة في خدمة الكعبة وضيوفها؛ وجدة عبدالمطلب من حكماء قومة بل وحكماء العرب؛ وكل هذا جعل من محمد مختلفاً عن اقرانه.


كان ورقة بن نوفل القرشي مسيحياً؛ يتبع احدى الطوائف التي رأت ان عقيدة التثليث اشراك بالله بشكل أو بآخر؛ وتمردت على الكنيسة؛ وتوزع اتباعها في مختلف الأمصار؛ يدعون لعقيدتهم سراً؛ والهادفة الى إصلاح المسيحية؛ ووجد ورقة بن نوفل في محمد شخصية متميزة؛ مُصَدَّق عند قومه؛ اضافة الى فطنته وذكائه وقدرته على الإقناع؛ مع أنه كان فقير في المعرفة؛ لكنه كان لماح وسرعان ما يستوعب؛ وعمل ورقة على إعداده لمهمة إصلاح واستعادة دين التوحيد؛ ونقل لمحمد الكثير مما يكتنزه من معارف كثيرة عن الأديان السابقة وغيرها من علوم الأمصار والحضارات؛ وزرع في محمد انه مكلف من الله بمهمة إعادة البشرية الى طريق التوحيد؛ وأنه سيكون وغيره من الرهبان المتمردين من تلك الطائفة عوناً له في هذه المهمة؛ وبدأت حينها تتشكل الدعوة التوحيدية الاسلامية؛ والتي هدفها اعادة الاستسلام لله وحدة؛ ونبذ عقيدة التثليث الشركية؛ بدأت الدعوة باعتبارها حركة اصلاحية للديانة المسيحية؛ قبل ان تتحول الى ديانة مستقلة.


 


في ذلك الزمن لم يكن يعرف الناس المفكر او العالم او الدكتور؛ من كان يملك قدرات خارقة وملكات كان يُطلق عليه “نبي” و “رسول”؛وقد ظهر في ذلك العصر مئات الأنبياء؛ وأكثرهم ضاعت قصصهم وانتهت دعواتهم لنقص في قدراتهم؛ بعكس محمد الذي كان فيه عبقرية؛ اضافة الى تبني ورقة بن نوفل ومن معه له؛ ما جعل دعوته متميزة ونقطة تحول في تاريخ البشرية كلها؛ وكما قلنا؛ كانت النبوة صفة تطلق على المتميزين؛ من لديهم ملكات خارقة للعادة؛ ومحمد كان منهم؛ حتى هو كان مقتنع انه نبي؛ ومكلف من الله؛ وبوحي منه؛ وأن الله مده بالمساعدين.


 


كانت تلك ثقافة العصر ووعي الناس فيه؛ وكان النبوة مقرونة بالتنبؤ وبعد النظر؛ وبأنها الهام من الله؛ ولو وجد الكثير من عظماء العالم ومفكريه الكبار اليوم في ذلك العصر لسماهم محبيهم ومجتمعهم انهم أنبياء؛ كجزء من ثقافة المنطقة في حينه؛ ولذا نجد ان شبه الجزيرة العربية ومنطقة الشرق الأوسط احتكرت الأنبياء؛ لأنها كانت جزء من ثقافتها؛ فلم يظهر نبي في أوربا مثلاً؛ مع ان الحضارة اليونانية وغيرها من حضارات أوروبا؛ أعرق وأقدم وأكثر غزارة في الإنتاج المعرفي كماً ونوعاً بكثير من الحضارة العربية؛ التي تعد بدائية الى الآن مقارنة بالحضارة اليونانية القديمة؛ التي أطلقت الكثير من الفلاسفة الكبار؛ وتحدثت عن الديمقراطية مثلاً قبل آلاف السنين؛ ومارستها عملياً في احيان كثيرة؛ بينما الحضارة العربية لم تستوعب بعد معنى الديمقراطية حتى اللحظة ولا تزال مرتبطة بالـ “النقل” لا بتحكيم “العقل” والمنطق الذي انتهجته حضارة اليونان وفلاسفتها.


 


كما أن الاسلام كهوية ثقافية جامعة؛ للعرب وعموم المسلمين؛ مهم بالنسبة لهم في صراع الحضارات؛ لكن عليهم ان يطوروا من تلك الثقافة؛ كما طور المسيحيون ثقافتهم الدينية؛ لتنسجم مع مختلف العصور؛ فيما استمر المسلمون في عبادة النص وتقديسه وتعاملوا مع الاسلام كديانة سماوية في كل مكوناتها؛ وان كتابها “القران” من الله واحاديث رسولها كذلك بأمر الله؛ ما جعلها جامدة عصية على التطوير؛ وسمحت بوجود جماعات متطرفة كثيرة استخدمت ذلك الجمود وتلك النصوص القديمة التي كانت تعبر عن ثقافة ذلك العصر بكل ما فيه من توحش واجرام بمعايير هذا الزمن؛ فيما كانت في ذلك العهد عادات وتقاليد؛ فمن الغباء الحكم على افعال محمد وأصحابه في فتوحاتهم وحروبهم وغزواتهم ونزواتهم بمعايير حقوق الانسان اليوم؛ لكن في نفس الوقت لا يمكن اعتبارها وحي من الله؛ فالله لا يتأثر بالزمان والمكان والثقافة؛ وما يشرعه صالح لكل زمان؛ ولذا قلنا ان رسوله الوحيد للبشر هو “العقل” لا “النقل”؛ وعلينا أن نتذكر ان محمد بدأ دعوته والعرب يدفنون بناتهم في الأرض مخافة العار؛ فكونه نقلهم من ثقافة دفن البنات الى تشريع الضرب فقط كما ورد في آيات القرآن يعد ذلك إنجاز؛ لكن لا يجوز القول أو لا يعقل بالأصح اعتبار ضرب الرجل لزوجته دين ووحي من الله؛ فذلك يقدم الله في صورة ذكورية متعصب مع الذكر ضد الأنثى ويميزه عنها.


 


على المسلمين ان يتعاملوا مع الاسلام كثقافة دينية وهوية جامعة لهم؛ لا كنصوص مقدسة منقولة؛ لتعاملهم معها كثقافة لا كنصوص دينية مقدسة من الله يمنحهم فرصة ليطوروها ويزيلوا او يعطلوا النصوص التي لم تعد تتناسب مع ثقافة هذا العصر أو تتعارض مع المواثيق والاتفاقات الدولية؛ وبالأخص منها المتعلقة بحقوق الانسان؛ ليسحبوا الذريعة من يد المتطرفين الذين يستخدمون تلك النصوص القديمة ويسعون لتجسيدها اليوم فيظهر الاسلام كدين ارهابي؛ وطالما استمرينا في التعامل مع تلك النصوص باعتبارها مقدسات فنحن ندين انفسنا بالإرهاب فعلاً؛ ونقدم الدين الإسلامي كمنظومة ارهابية عصية على الاصلاح؛ وبالتالي لا حجة على جمهورية الصين عندما سجنت آلاف المسلمين باعتبارهم مرضى يحتاجون الى علاج؛ فمن يؤمن بنصوص قديمة عمرها أكثر مما ١٤٠٠ عام ويتعامل معها كمقدسات وأنها كلام الله وأوامره حرفياً ويؤمن بأن عليه تطبيقها متى ما تمكن من ذلك فهو مريض فعلاً ويحتاج الى طبيب نفسي.


الاسلام ثقافة دينية؛ لا دين سماوي؛ وما لم نؤمن بذلك سنواجه العالم وسنرسخ وجهة نظرهم لنا ولديننا؛ باعتبارنا مجموعة من المتطرفين الذين ينتظرون فرصة ليطبقوا وجهة نظر دينهم ومعتقداتهم المتطرفة والإرهابية بمعايير اليوم على العالم ويغيروا أنظمة الحكم لتنسجم مع مفهومهم للدولة الاسلامية ونصوص القران والسنة.


#صحيح_البخيتي


 

زر الذهاب إلى الأعلى