اليمن.. قبل أن تتخلف
يجهل كثير من المتخصصين والدارسين لعلم الأرض أنَّ “يمنياً” عاش قبل أكثر من ألف ومئة عام تحدَّث عن كروية الأرض كمعلومة بدهية، وأورد على صحتها أدلة عقلية، وبراهين فلكية لا تخطئها عين المتبصر المتدبر في خلق السماوات والأرض.. كما أنَّه سبق أيضاً إلى الحديث عن جاذبية الأرض قبل أن يكتشفها “نيوتن” بمئات السنين.
هذا اليمني العبقري واسمه “الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني” شرح بكل وضوح كيف أنّ الأرض “مُقببة” وليست “مُسطحة” في وقت كانت فيه أوروبا غارقة في ظلمات بعضها فوق بعض.. وحتى العالم الإسلامي كانت تسوده مفاهيم سطحية تؤكد أنّ الأرض مُسطحة ومحمولة على قرن “ثور” كما نُشر في بعض التفاسير ومنها تفسير “ابن كثير” الذي أسهب في وصف هذا الثور ووضع له اسم “مُهير” نقلاً عن خُزعبلات إسرائيلية.
ففي الصفحة السابعة من الطبعة الأولى لكتابه “صفة جزيرة العرب” قال الهمداني حرفياً “اعلم أنّ الأرض ليست بمسطحة, ولا ببساط مستوي الوسط والأطراف, ولكنها “مقببة”.. وذلك التقبيب لا يبين مع السعة إنما يبين تقبيبها بقياساتها إلى أجزاء الفلك, فيقطع منها أفق كل قوم على خلاف ما يقطع عليه أفق الآخرين طولاً وعرضاً في جميع العمران. ولذلك يظهر على أهل الجنوب كواكب لا يراها أهل الشمال .. ويظهر على أهل الشمال ما لا يراه أهل الجنوب.. ويكون عند هؤلاء نجومٌ أبدية الظهور والمسير حول القطب, وهي عند أولئك تظهر وتغيب.. كما يكون عند أولئك نجوم أبدية الظهور, وهي عند هؤلاء تظهر وتغيب.. وسأضع في ذلك مقياساً بيناً للعامة, من ذلك: إنَّ ارتفاع “سهيل” بصنعاء وما سامتها إذا حلّق زيادة على عشرين درجة ارتفاعه بالحجاز قرب العشر.. وهو بالعراق لا يُرى إلا على خط الأفق, ولا يُرى بأرض الشمال.. وهناك لا تغيب “بنات نعش” وهي تغيب على المواضع التي يُرى فيها سهيل فهذه شهادة العرض..
وأمّا شهادة الطول فتفاوت أوقات بدء الكسوف، ووسطها، وانجلائها على خط فيما بين المشرق والمغرب, فمن كان بلده أقرب إلى المشرق كانت ساعات هذه الأوقات من أول الليل والنهار أكثر .. ومن كان بلده أقرب إلى المغرب كانت ساعات هذه الأوقات من آخر الليل وآخر النهار منكوساً إلى أولهما أكثر.. فذلك دليل على تدوير موضع المساكن والأرض وأنّ دوائر الأفق متخالفة في جميع بقاع العامر..
ولو كان سطح الأرض صفيحة لكان منظر “سهيل” و “بنات نعش”واحداً …”
وفي كتابه “الجوهرتين العتيقتين” أشار “الهمداني” إلى حقيقة الجاذبية بقوله “فمن كان تحتها – أي تحت الأرض عند الأسفل – فهو في الثابت في قامته كمن فوقها, ومسقطه وقدمه إلى سطحها الأسفل كمسقطه إلى سطحها الأعلى, وكثبات قدمه عليه, فهي بمنزلة حجر المغناطيس الذي تجذب قواه الحديد إلى كل جانب..”.
والهمداني المولود في “صنعاء” عمل أول حياته “جَمّالاً” ينقل الحجاج مع أسرته من صعدة إلى مكة.. وعاش متنقلاً مابين صنعاء ومكة والحجاز ..
قرأ ونقل كثيراً عن الكتب المُعربة مِن اليونانية والفارسية والهندية. وتأثر كثيراً بالعالمين اليونانيين “بطليموس” و “أرسطوطاليس” كما التقى بمعظم علماء وفقهاء وأدباء عصره.
وبعد عودته إلى اليمن استقر في “صعدة” التي كان قد انتقل إليها الإمام الهادي “يحيى بن الحسين الرّسي” قبله بـ 25 عاماً ليُتوفى فيها وتصبح قاعدة لمذهبه.
وهناك خاض”الهمداني” معارك وسجالات ضد شعراء كانوا يُفاخرون بأفضلية “العدنانيين” على قومه “القحطانيين” انتهت بحبسه سنتين بتهمة سب وهجاء النبي.. وبعد هروبه سكن “ريدة” التابعة حالياً لمحافظة “عمران” حتى مات ودفن فيها.
صحيح أنّ الهمداني كان مبالغاً في تعصبه للقحطانية، وظهر ذلك من خلال قصيدته “الدامغة” التي لاتزال تثير الزوابع حتى اليوم، إلاّ أن المتتبع لمسيرة حياته سيجد لهذا التعصب ما يبرره، فقد عانى اليمنيون من النظرة الدونية والاحتقار في ظل الخلافتين الأموية والعباسية حتى وُصِفوا بأنّهم لايخرجون عن “دابغ جلد وناسج بُرد وسائس قرد” وتعرض هو لحملة تصمه بابن يعقوب اليهودي.
و جَدُه “يعقوب بن يوسف بن دَاوُدَ بن سليمان” يرجع لقبيلة أرحب التابعة لبكيل همدان. وهذه المناطق كانت -قبل أن تعتنق الإسلام- على الديانة اليهودية من أيام دولة حِمْيَر .
وقد اهتم الهمداني بتسلسل أنساب اليمن وأرّخ لها بصورة مُفَصَّلة في كتابه الشهير “الإكليل من أنساب اليمن وأخبار حِمير” الذي كان من عشرة أجزاء مخطوطة قبل إرساله للطباعة في لبنان، غير أنَّه عاد أربعة فقط، و فُقدت الستة الباقية.. وكان عُذر الناشر أنّ فقدانها حصل بسبب الفوضى ونشوب الحرب الأهلية في لبنان، لكن العارفين بمحتوى الأجزاء الستة يؤكدون أنّ إخفاءها أو إتلافها تم بشكل مقصود في محاولة لطمس تاريخ الدول اليهودية التي حكمت اليمن قبل الإسلام، ولعل ذلك يُفسر خروج كتاب “التوراة جاءت من جزيرة العرب” للباحث “كمال الصليبي” الأستاذ في الجامعة اللبنانية بعد فترة وجيزة من إخفاء نُسخ الإكليل .
وبالعودة للأجزاء الأربعة المتبقية من الإكليل سنجد الهمداني يعتمد “كعب الأحبار” مصدراً رئيسياً ينقل عنه، وكعباً هذا كان من علماء وأحبار اليهود في اليمن قبل أن يسلم وينتقل إلى المدينة على الأرجح بعد وفاة الرسول..كما أنَّ المتمعن في كل كتب الحديث والتفسير والتأريخ الإسلامي سيراه مرجعاً فيها إضافة إلى عالم يمني آخر اسمه “وهب بن مُنبه”، المولود في مدينة ذمار.
وقيل عن “كعب الأحبار” أنّه لم يُدَّون شيئا، وكان يجلس في المسجد النبوي يتحدث إلى الناس، و يقرأ التوراة ويشرحها لهم.. وتأثر به “أبو هُريرة” ونقل عنه.. لكن “الهمداني” يذكر أنَّ أهل “صعدة” كانوا قد توارثوا كتبه ورووا منها.
قال في الجزء الرابع من الإكليل”روى الصعديون مرفوعا إلى إبراهيم بن عبد الملك الخنفري، قال: قرأت كتب كعب الأحبار، وكان كعب رجلًا من حمير من ذي رعين، وكان قد قرأ التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وأوسع في العلم” وقال أيضا “والوجه ما ذكرنا في أول السيرة من هذا الكتاب، ما رواه أهل صعدة عن كعب الأحبار في خلق آدم، ومن خلفه إلى نوح، وخبر الطوفان”.
وظل اليمنيون إلى منتصف القرن الماضي يستعينون باليهود في مختلف شؤون حياتهم، وكان قد لفت انتباهي قبل فترة نقش لـ”نجمة داوود “، مرسوم في أعلى “مِحْراب” مُصلَّى قديم في قريتي، أخبرني قريبٌ لي طاعنٌ في السن، أنّ مثل هذا “النقش” كان مألوفاً في كثير من القباب والمساجد ولَم يكن مستغرباً إلى ما قبل 30 عاماً ” لأن اليهود اليمنيين كانوا يعملون في النقش، إلى جانب حِرٓفْ يدوية أخرى، قبل هجرتهم إلى فلسطين، بعد تولي الامام أحمد حُكم اليمن، وكانوا شديدي الحرص على وضع “نجمة” نبيهم على مشغولاتهم حتى أنّها كانت موجودة في جامع معاذ بن جبل في الجند قبل أنْ يطاله عبث الترميم “.
والمؤكد عندي أنَّ التحريض والطمس شاركت فيه جهات عديدة، كما تعدى “النجمة” السداسية التي اتخذها اليهود شعاراً لهم، إلى تغيير كل ماله علاقة بهم في معظم الدول الإسلامية، خاصة بعد احتلالهم لأرض “فلسطين “، ومن ذلك تدخل مشيخة “الأزهر” للتعميم على مطابع المصاحف القرآنية باستبدال اسم “الإسراء” للسورة رقْم “17” في القرآن بدلاً عن “بني إسرائيل” التي كانت مُشتهرة به ومذكورٌ في مدونات الأحاديث وأبرزها صحيح “البخاري”.
قبل هجرة يهود اليمن -وهم من نسل من بقي على الديانة اليهودية من اليمنيين القدامى- كانوا يعيشون بأعداد كبيرة في “قرى” خاصة بهم أو مختلطين بمن أسلم أجدادهم في معظم أرياف وجبال اليمن..
وكانوا يشتغلون في صياغة الفضة، وصناعة الفخار، وحياكة الملابس، ودباغة الجلود، وصقل السيوف والجنابي.. كما اشتهرت بعض نسائهم في أداء الأغاني التراثية، ومشاركة المسلمين أفراحهم، مع استغلال مثل هذه المناسبات لنشر عاداتهم وشعائرهم، ففرضوا بعض طقوس الذبح التوراتية في الأعراس، إذ يقومون بالذبح أمام المنزل قبل دخول العروس، أو عند بناء منزل جديد، مع فارق أنّ الذبح في شعائرهم، يقوم به رجل دين منهم يُسمى “عيلوم” أو “ذِبيح”.. وينبغي أن يكون من أبناء هارون .
كما أدخلوا ما يُسمى بـ”العُقَالة” على قسمة المواريث عند المسلمين، حيث تنص شريعة موسى على منح الإبن الأكبر سهمين من ميراث أبيه، وصارت من الحيل التي يلجأ إليها قضاة المواريث في بعض مناطق اليمن.. فيضيفون عُقّالة فوق نصيب الابن الأكبر .
واللافت أنَّ اليهود اليمنيين يغلب عليهم الوداعة والمسالمة، واللين ورقة القلب، عكس الصهاينة القادمين من أوروبا والأمريكتين، أو المهاجرين من العراق والشام ومصر ودوّل المغرب العربي.. وربما يكون هذا أحد أسباب الحديث النبوي المشهور عن أبناء اليمن، وأنهم أهل كتاب وذوي إيمان وحكمة.. دخلوا في دين الله أفواجاً، بموعظة حسنة، وبعض آيات من القرآن الكريم، ومن استمر يهودياً أو نصرانياً لم يعُرف عن أكثرهم حمل السلاح.. أو اللجوء للعنف مفضلين ربما اللجوء لـ”القوة الناعمة”.
وما يعنينا في هذا المضمون هو التذكير بفرادة الحقبة الزمنية من التأريخ اليمني القديم .. إذ تؤكد أسبقية الحضارة اليمنية على ما سواها.. ويكشف ذلك ماظهر من آثار ومنحوتات ورسوم وتماثيل ومومياءات؛ اندثرت مع الأسف بهجرة اليمنيين إلى أصقاع الدنيا لتصير بهم مساكنهم الجديدة أكثر تطوراً وتحضُّراً، أمّا اليمن فتحولت إلى ملجأ للمضطهدين الفارين من بطش خلفاء قريش ومن تبعهم ، ولا عمل لمن آثر من اليمنيين البقاء فيها -وعزف عّن الهجرة- سوى القتال معهم أو مع خصومهم.