رحلة العرب من الرمل إلى الماء

 


البادية هي وطن «الأعراب» وهم العرب – أو فريق منهم – في بداياتهم الحضارية، عاشوا فيها قروناً قبل أن ينتقلوا منها، أو جزء منهم، في رحلتهم المدنية إلى ضفاف الأنهار التي سكنوها، والقيعان التي حلُّوها شرقاً وغرباً.


كان أهل البادية – قديماً- يتحصلون على أرزاقهم -غالباً- من «حد السيف»، نظراً لقلة الموارد، وقحط العيش. وكانوا يحتقرون من يكتسب رزقه من غير «حد سيفه»، وقد سموا مصادر الرزق الأخرى غير «حد السيف» بالـ»مِهَن»، وهو اشتقاق لغوي من المهانة والضعف، ونفروا من سكنى المدن، واعتزوا بأنهم «حَرَشَةِ الضِّباب وأكلة اليرابيع»، وحقروا «أهل السواد (الزراعة) وأكلة الشواريز (الأجبان) وباعة الكواميخ (المخللات)»، على حد تعبير الرياشي.


وقد فجر اعتماد سكان البادية على «حد السيف» في كسب الرزق كثيراً من الحروب، وجولات من الغزو والسلب والنهب، على طول وعرض بادية العرب، وعلى امتداد تاريخهم قبل الإسلام وبعده، مع مراعاة أن الحديث عن «الأعراب» لا يشمل «عرب» الحواضر الذين أسسوا ممالك متعددة على أطراف الجزيرة في اليمن والعراق والشام، أو «عرب» المدن والواحات في الجزيرة، مثل مكة والمدينة والطائف وغيرها. ولذا كان النبي يمازح بعض أصحابه، عندما يرى عليه سلوكيات الأعراب بقوله: «أما غادرت أعرابيتك؟»، على اعتبار أن النبي من مكة التي كانت أكبر من بادية وأقل من وطن، أو لنقل إنها كانت أكبر من قبيلة وأقل من دولة في ذلك الزمان.


وكما يُخلق أهل كل أرض على صورة أرضهم، طبع «الأعراب»على صورة البادية. فيهم تقلبات مزاجها، قساوة طبعها، انبساط مسافاتها، عطش رمالها، إقدام ضواريها، فراسة صقورها، واختلاط أعاصيرها، إلى غير ذلك من الخصائص والصفات.


وقد مر الأعراب بكثير من الأطوار إلى أن تحولت كثير من قبائلهم إلى «عرب» سكنوا المدن وأسسوا الممالك والدول. غير أن الكثير من الأعراب مع خروجهم من البادية حملوها معهم في الحل والترحال، ومع حمل سكان البوادي باديتهم معهم إلى ضفاف النهر وسواحل البحر ظلت «عادات الرمل» تتصارع داخل تركيبتهم الذهنية والنفسية، مع «قيم الماء»، لقرون طويلة، وما زال هذا الصراع محتدماً داخل «الذات العربية» إلى اليوم.


حدث ذلك الصراع الذاتي مع تواري مساحات واسعة من الرمل في تركيبة الشخصية العربية، أثناء رحلتها الحضارية والروحية لصالح مساحات شاسعة من الماء، الأمر الذي أجَّج صراع الرمل والماء داخل «الروح العربية»، كلما ابتعدت عن مضاربها والخيام، ما أدى بالعرب اليوم إلى مرحلة يظهرون فيها منتمين إلى «قيم الماء»، غير أن داخل كل منهم «بادية صغيرة»، تظهر- واضحة- عندما يتصرف بعيداً عن تكلف «برستيج الماء» المعاصر. وعلى ذلك، فإن ما توارى من الرمل في «الشخصية العربية» لا يعني اخضرار البادية، قدر ما يعني أن تلك البادية انطوت هناك في مكان قصي من «اللاوعي العربي» تشده إلى الخيمة الأولى، أو الوطن المفقود. إن صراع الرمل والماء يعكس إشكالية القديم والحديث، وصراع عادات «بيت الشَّعر»، وقيم «بيت المَدَر»، مع مراوحة الشخصية العربية اليوم بين الانشداد للماضي، أو لصورة الماضي في ذهنها، أو الانحياز للمستقبل الذي عَبَرَت الكثير من الأمم والشعوب ماء «النهر» إليه.


معلوم أن الإسلام شكّل وثبة حضارية كبرى للعرب الذين عاشوا بعده حياة القصور، وبنوا المدن، وامتدوا على رقعة واسعة من بلاد ما وراء النهرين، إلى أنهار الأندلس. وفي رحلة العرب الحضارية تلك، عَلّموا وتعلموا، حاربوا وحوربوا، ومع تجاربهم التاريخية اكتسبوا الكثير، وخسروا الكثير، عبروا ضفاف الأنهار، وركبوا البحار إلى القارات الأخرى، غير أن «باديتهم الصغيرة» سافرت معهم في كل مكان وصلوا إليه، وهذه هي الإشكالية.


في فترة تاريخية أو في فترات متقطعة انسجم العرب مع الروح الإنسانية الكبرى، مع القيم الحضارية المشتركة، مع مبادئ الإسلام، وسجلوا نموذجاً رائعاً في فترة النبي محمد والفترة التي تلته في عصر خلفائه الراشدين، غير أن «طبيعة البادية» كانت في فترات كثيرة تعاودهم، فيتحولون إلى حياة الغزو والحرب التي تقوم لأسباب مشابهة لـ»عَقْر فرس أو ناقة»، كما حدث ذات يوم قبل مئات السنين. ذكر القرآن أن بني إسرائيل في محاولاتهم المستمرة لتشكيل شعب، أُمروا بعبور «نهر»، بدون أن يشربوا منه، في مغزى رمزي لضرورة الالتزام الحضاري بـ»القوانين»، التي تشكل أساس بناء الدول، وحدَّثَ القرآنُ العرب بذلك، على اعتبار تشابه أطوار «النشأة والنمو» بين هذين العنصرين الساميين (العرب والإسرائيليين) اللذين وُلدا في البادية، وتكاثرا فيها إلى قبائل قبل أن يبدآ رحلتهما الحضارية إلى مراحل الدول والشعوب.


وبينما يعبر العرب اليوم نهراً حضارياً ضخماً، فإنهم ينهضون ويقعون، يظمأون ويشربون، وما زالوا للأسف رغم مرور مئات السنين، ورغم التراث الروحي الخالد لديهم ينحازون في كثير من ممارساتهم السياسية والاقتصادية، لعادات «بيت الشَّعْر»، ويتقوقعون داخل خيمة أو «وطن صغير»، غير مدركين بشكل جلي لأبعاد «الوطن الكبير» الذي يعيشون فيه، وغير واعين لحقيقة أنهم لكي يقيموا دولهم اليوم، لابد لهم من الامتناع عن شرب الماء، أثناء عبور النهر، التزاماً بـ»القوانين» التي تعد النواة المؤسسة للدول والحضارات.


مشكلة العرب- اليوم- أن «بنية الروح» لم تتغير كثيراً لديهم، جاءهم نبي بث فيهم روحاً حية وثَّابة، عبروا بها النهر، غير أن طبيعتهم القديمة، قبل الإسلام، ما زالت تعاودهم، وبسبب منها طوعوا «روح الإسلام» لغرائز «طبيعة البادية»، وأبرزوا «شخصيتهم البدوية» في ثوب مدني، وهم اليوم على هذا المنوال، يظنون أنهم يعملون بالشريعة، فيما هم يعملون بالأعراف، ويعتقدون أنهم يطبقون تعاليم الإسلام، وما هي إلا عادات البوادي، التي خرجوا منها، وحملوها معهم في كل الاتجاهات.


واليوم ونحن نتأمل الحياة السياسية العربية لا يلزمنا الكثير من الحذاقة لكي ندرك أن دولنا العربية – في خلافاتها – لا تبعد كثيراً عن وضع قبيلتين عربيتين في الصحراء قبل 1400 سنة، ونحن نشاهد برامجنا الحوارية والتلفزيونية، نستدعي إلى الذاكرة «يا لثارات تغلب»، التي كان أجدادنا يصدرونها في ميادين حروبهم، التي لكثرتها سميت «أيام العرب»، في إشارة إلى أن يوماً لا تقع فيه حرب بينية، لا يعد من أيام العرب الخالدات.


لا تزال العقلية التي تدير الخلافات العربية – العربية هي عقلية الثأر الشخصي، والانتقام الذاتي، من غير إدراك للتوجهات القومية للدولة، أو المصالح الوطنية للشعب، مع استمرار تحكم فارس والروم في قبائل العرب المعاصرة. إن العرب اليوم بحاجة إلى كسر الكثير من التابوهات، والخروج من الكثير من التوابيت، يحتاجون إلى مغادرة جغرافيا البادية وجسدها القاحل إلى استدعاء روح البادية وحكمتها الخالدة. وعليه، يجب أن يميزوا بين البادية والوطن، بين القبلية والدولة، بين الشعب والأمة، بين العرف والشرع، بين «بيت الشَّعْر»، وبيت «المَدَر» الذي أصبح اليوم مبنياً من الأسمنت والحديد والياجور والرخام، والكثير من مكونات المعمار الحديث. يجب الخروج من حالة «التلبس الديني والقومي» التي يخيل للمريض فيها أنه يعيش مثالياته الدينية والمجتمعية، فيما هو يعيش أوهامه المرضية التي تولدت نتيجة حالة الفصام الشخصي، المتولد بدوره من صراع الماضي والحاضر، والقبيلة والدولة، والعرف والشرع، والقديم والحديث، داخل هذه الشخصية العربية التي ستتجاوز- كغيرها- محنتها الحضارية، ومأزقها القومي، ومعضلتها الوطنية، بقوة من يتحمل رؤية ماء النهر، بدون أن يشرب منه أثناء عبوره إلى دولة القانون، التي ستكون منتهى رحلة هذا الأعرابي الذي غادر الرمل، قبل قرون لكنه لم يصل بعد إلى الماء.


 


 

Exit mobile version