كانت الديمقراطية حلم الشعوب في الدول الغربية، وناضلت من أجل تحقيقها لسنوات طويلة، وتحقق حلمها لكن لم يكن الطريق للوصول إليه سهلاً.
بدأ الطريق بالفكر المستنير، وتضحيات بأصحاب العقول وأحياناً برؤوسهم، وحرياتهم، ثم بالحبر الذي خط ملايين الكتب، وبأجيال دفعت وقتها ودماءها لتصل إلى ما تنعم به اليوم من حريات.
لكن وحيث بلغت الحضارة الإنسانية ذروتها، بدأت الآن مراحل النظر إلى ما تحقق ويواصل الفكر المستنير رحلته نحو الارتقاء بالإنسان، ليجد أن هذه المنظومة لم تحقق المنشود.
الحروب تزايدت، والقوانين التي توصلت إليها هذه الدول يتم تجاوزها، والعنصرية التي حاربت ضدها أجيال عادت اليوم وبقوة، وبتعددات مخيفة.
لم يعد اللون فحسب محور العنصرية أو الأصل، بل المعتقد وحده رفض الآخر لمجرد أنه مختلف.
المخيف هنا أن المسيرة الإنسانية أخذت منعرجاً عكسياً، لتسير ضد ما تحقق وتهدم الأنظمة والهياكل التي تأسست على امتداد عشرات السنين.
وهنا السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل وصلت الإنسانية إلى مرحلة جديدة معقدة؟
مرحلة ضرورة التغيير السريع حسب المراحل التي تمر بها المناطق؟
وهل العقل البشري وصل به التطور لدرجة تمكنه من أخذ القرارات الصائبة، في أوقات قياسية وبسرعة موازية لسرعة وسائل التنفيذ؟
وهنا نتحدث عن التكنولوجيا، وتطور وسائل وتقنيات التواصل والاتصال.
وكذلك عن العتاد والسلاح وما يمثله التسرع في أخذ القرارات وتنفيذها، وما قد يتسبب فيه من مآسٍ “غير مقصودة” للإنسان.
في الماضي كانت قرارات الدول تصدر عن مفكريها، ولا تمر دون مصادقة رجال الدين والقضاء ونخبة من الحكماء، وينظر فيها ويعاد النظر قبل أن يتم التشريع، ثم تحول إلى المنفذين مع ترك مساحات التجربة ومناطق للانسحاب.
المرعب اليوم أن أغلب القرارات خاصة ذات الصبغة الدولية والقوانين التي تخص مصير شعوب أصبحت تقرر وتعتمد في غضون سويعات، وعلى إثر اجتماعات بين ممثلين لدول ومنظمات هم بدورهم غير قاريين فيها ويعملون بشكل دوري.
أين مصير الإنسان من كل هذا؟
المأزق الإنساني هنا هو ضرورة اتخاذ القرار وسرعة التنفيذ لإنقاذ شعب أو شعوب من أخطار حقيقية محدقة، وخير مثال هو ما يقع الآن في كوريا الشمالية، وكذلك ضرورة التعامل مع ملف الاتفاقية النووية وخطر إيران الجاثم على كل المنطقة.
ومن جهة أخرى وفيما يخص قضايا أخرى تتحول السرعة إلى تسرع وأحياناً تهور قد يؤدي إلى دمار أمم وتشريد شعوب.
تحديد الأولويات الدولية أيضاً مسألة عويصة أخرى، وتدعونا للتفكير في ضرورة استحداث لجنة أو هيئة دولية من سياسيي العالم ومفكريه وعلمائه الذين يتمتعون بالخبرة ويشهد تاريخهم بالنزاهة، لتحديد الأولويات.
وأن يقدموا تقارير دورية للأمم المتحدة من أجل تحديد الأولويات وأن يكون لهؤلاء سلطة على المشرعين ليس في التشريع بل في تحديد الأولويات الدولية.
ما نراه سواء في عمل الأمم المتحدة أو الأجهزة المرتبطة بها والمنظمات التشريعية الدولية وحتى الناشطة في مجال حقوق الإنسان، هو العمل بنظام الفعل ورد الفعل.
فمثلاً إذا تجاوزت دولة قانوناً ما تعاقب على تجاوزاتها ويتوقف العقاب سواء كان اقتصادياً أو أمنياً فور توقف الطرف الذي تجاوز القانون عن عمله.
وأثبتت السنوات الماضية أن هذه الحلول المؤقتة ليست ذات جدوى.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى التقصير في التعامل مع الأزمات هو من أخطر المآزق.
وخير دليل على ذلك التقصير الدولي في التعامل مع الأوضاع في بعض الدول، ونذكر منها ليبيا التي يعاني شعبها من إخلال أراه دولياً في التخلي عنها بُعيد سقوط القذافي.
واليمن وما يحدث فيه الآن بسبب التدخل الإيراني الصارخ ودعمه للحوثيين الذين يقاتلون ويقتلون من أجل أطماع زرعها فيهم الفرس، أطماع في الحكم مبنية على الإقصاء. ولم يتخذ العالم الإجراءات الحازمة ضد إيران ومن يواليهم ولم يحمّل الحوثيين مسؤولية ما يحدث، ولم تبذل الجهود اللازمة لفهم المأزق اليمني والتعامل معه بالحزم المطلوب، ما سهل لإيران ومنحها المجال للتغول وتعزيز دعمها بالمال والسلاح لممثليها الحوثيين على الأرض هناك ومن يدفع الثمن هو شعب ينزف وبلد سيحتاج إلى أجيال من أجل إعادة البناء والإعمار، ولا يفوتنا هنا أن نشيد بقوات التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية عبر مبادرات تقديم المساعدات الإنسانية، وإعادة البناء والأمل لشعب متعب منهك شعر أن العالم تخلى عنه.
وإن حاولنا حصر الأمثلة حول الإخفاقات في تحديد الأولويات والتسرع في اتخاذ القوانين والتشريعات التي يتبين بعد فترات قصيرة عدم جدواها سنحتاج إلى مئات الباحثين وآلاف الكتب.
الآن تدق نواقيس الإنسانية، فقد حان وقت عودة الفكر ودور العلم والحكمة.