بعد قرن كامل من سقوطها يطمح بائع البطيخ السابق إلى طبع نسخة جديدة من سلطنة الجواري.
بالطبع لا يعيب رجب طيب أردوغان أنه اشتغل بالبطيخ في شوارع إسطنبول، فقد كان جوزيف بروز تيتو حداداً، وجوزيف ستالين ابن إسكافي، والبرازيلي لولا داسيلفا ماسح أحذية.
خلال صعوده السريع تراءت لأردوغان ورقة ذهبية في رزم العملة «الإخوانية» المستهلكة والفواحة بأخبث الروائح. ثم نال الإعجاب فيما بدا أنه لاعب بارع في إدارة علاقة تركيا بالولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، حتى أغرته صفة اللاعب الماهر، وراح يجرب لعبة أخرى غير لعبة الطاولة، فيدخل إلى السرك بهلواناً مرة وماشياً على الحبال المشدودة مرة ثانية.
وهكذا، كثيراً ما حدّث أردوغان أعضاء حزبه بأنه ينتظر سنة 2022 موعد انتهاء معاهدة 1923 التي أنشأت تركيا في حدودها الحالية ليطالب بتعديل الحدود حتى تتطابق مع خريطة السلطنة العثمانية قبل سقوطها. والمعنى أنه ينوي المطالبة بمسح دول من الخرائط في البلقان وشرق أوروبا والعالم العربي، وذلك يكشف الدافع الحقيقي لتدخله في سوريا بدعم الإرهابيين وبالاحتلال المباشر.
وها هو بعدها يطير من فوق اليونان وإيطاليا ليوقع اتفاقية تفاهم بتحديد مناطق السيادة في البحر مع بلد لا تجمعه حدود مع بلاده. لا، ليس مع البلد، وإنما مع شخص ينتحل صفة رئيس حكومة لا يعترف بها الليبيون.
أردوغان وحده يضفي الشرعية على تلك الجماعات الإرهابية التي تضم عناصر تنظيم «الإخوان» الليبي وتفرعاته مع نظرائهم المجلوبين من بلدان أخرى، في وقت ينزع فيه الشرعية عن الجيش الوطني الليبي.
ففي معرض حديث حكومته لبرلمان بلاده بطلب الموافقة على إرسال قوات إلى ليبيا، برر الطلب بحماية المصالح الوطنية لتركيا واتخاذ الاحتياطات اللازمة ضد المخاطر الأمنية الآتية من جماعات مسلحة غير شرعية!.
عدا التكرم بإسباغ الشرعية أو نزعها، فإن الكلام عن مصالح وطنية تركية في ليبيا يثير الدهشة أو الاستغراب وحتى الاستهجان؛ إذ لو كان الأمر هكذا لغزت الدول بعضها بعضاً في كل أرجاء الأرض ولرجعت إلى إفريقيا كل جيوش الدول الاستعمارية الأوروبية التي تمتلك مصالح أكبر بكثير من شركات المقاولات التركية في ليبيا.
إن أردوغان فيما يقول ويتصرف يلف ويدور ثم لا يستطيع أن يغطي دوره في صناعة الإرهاب ودعمه، فهو ينقل الإرهابيين إلى ليبيا من سوريا على مرأى من العالم تحت إغراء رفع أجورهم عشرة أضعاف من 200 إلى 2000 دولار في الشهر؛ كرم ستسدد فاتورته من ثروة الشعب الليبي.
مرة ثانية أردوغان لا يُخفي أوهامه في طبع نسخة جديدة مستحيلة من السلطنة العثمانية.
لقد استبق قرار برلمانه وألقى خطاباً حماسياً مشحوناً بالأمل من أن يحيي جنوده الذين سيرسلهم إلى ليبيا، مآثر أمير البحار خير الدين بربروس في البحر الأبيض. وبربروس بدأ قرصاناً قبل أن يتولى إيالة الجزائر، ثم أميراً للبحار في عهد السلطان سليمان القانوني، كما لو أن أردوغان يبعث بهذا الكلام رسالة غير مهذبة للعرب وخاصة للجزائر التي عانت في العشرية السوداء، إرهاب «الإخوان» حتى عرفت أكثر من غيرها أنهم مستعدون دائماً للتضحية بالوطن وبالشرف مقابل أي شيء، وأن يكون مصدر هذا الشيء إسطنبول وليس تل أبيب أو واشنطن أو لندن.
والظاهر في الأمر أن أردوغان أراد أن يتخلص من زبالة الإرهابيين في سوريا بعد أن ضاقت بهم الأرض هناك، واتجه إلى استخدامهم في ليبيا لتأسيس دولة «داعشية» ثانية شمال ووسط إفريقيا، فضلاً عن أنه يسعى إلى زيادة الاستثمارات والصادرات التركية إلى ليبيا ومحيطها.
إن أردوغان يجمع بين صلف الانكشارية العثمانية وحقد «الإخوان» لكأنما هو في الحقيقة رجل يقامر في المجهول غير مُدرك أن تشييد الإمبراطوريات يختلف كثيراً عن بيع البطيخ، وأن الشعب الليبي سيقاومه بضراوة ويُجبر سفنه على أن تعود محملة بالتوابيت وليس بالذهب، ثم إنه لن يعثر على مشترين لبضاعته من حوله في العالم العربي وفي البلقان وبلغاريا وجورجيا، وغيرها من البلدان التي نهبت خيراتها سلطنة الجواري.
*نقلاً عن صحيفة الخليج