الزحف إلى الخلف

 


 


 


استلفت انتباهي في الإحاطة الأخيرة للمبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث، تبنيه مقترحاً قال إن شخصيات سياسية وعامة اجتمع بها في عمان يومي 26 و27 فبراير، شددت عليه بإشراك النساء والشباب وقيادات قبلية واجتماعية في أية مفاوضات قادمة بين المتحاربين.


 


ليس مستبعداً أن يخلط بعض من حضر الاجتماع بين المفاوضات والمؤتمر أو المنتدى. وغريفيث ليس دبلوماسياً عديم الخبرة حتى يذهب إلى هذا الخلط الذي لا يرتب مسؤولية أو التزامات على المتفاوضين.


 


وهو لا ينفك يتعمد استهلاك أوقات طويلة خارج مهمته، بعقد مثل هذه الاجتماعات، بين وقت وآخر، حتى يظهر انغماسه في شواغل مهمة، بينما تجري الحوادث على النحو الذي يرضي رغبته في أن تستقر الأوضاع على معطيات يستطيع من خلالها أن يمرر ما يريد. ورغبته في إطالة أمد الحرب، تنعكس بالتحيزات الواضحة في إحاطاته التي تلقي بمسؤوليات التصعيد على طرفي الصراع سواء بسواء، كما في تعاطيه مع خروقات حركة الحوثي في جبهة الحديدة، وامتناعها الكامل عن تنفيذ ما وافقت عليه في ستوكهولم.


وليست المفارقة عصية على الفهم بين هلعه وتطيره يوم أوشكت قوات الشرعية على الاستيلاء على الحديدة، وبين تصريحاته المراوغة حين اقتحم الحوثيون نهم، واجتاحوا الجوف.


 


هناك أبدى انزعاجه من أن يلحق الدمار بالمدينة، ورفع إشارة ممنوع الدخول، وهنا ذهب إلى مأرب خائفاً على المدينة أيضاً، ولكن نصح المرابطين فيها بأن يتجنبوا الحرب. ولا شك أنه ضغط على العصب الحساس، حيث يعرف أن الخطر يتهدد ممتلكات خاصة بالقيادات المحلية والعسكرية في مأرب، وبقيادات عسكرية وسياسية عليا استثمرت لحسابها أموالاً طائلة في المدينة.


 


يبدو غريفيث، في كل ما يفعل ويقول، وسيطاً غير نزيه، وأكثر من ذلك أنه ليس مبعوثاً للأمين العام للأمم المتحدة، وإنما هو مندوب بريطانيا غير السامي، مكلف بإدارة الصراع وتوجيه الحوادث نحو توليد حقائق على الأرض تكون فيها جماعة الحوثي أكملت السيطرة على ما كان يعرف بالجمهورية العربية اليمنية، وفي الوقت نفسه إطلاق الفوضى في جمهورية اليمن الديمقراطية السابقة.


 


لسوف تكون فوضى بلا ريب، لأن التعقيدات الاجتماعية وما تعكسه من تعاقدات، سوف تصل إلى الصدام المحتوم بين القوى السياسية الطافية. إن تلك التعقيدات والتناقضات لا تقدم بارقة أمل في إمكانية قيام حكومة واحدة قوية تبسط سيطرتها من لحج إلى سقطرى. فحتى لو ذهب بنا الخيال بعودة الحزب الاشتراكي بقوامه وقوته يوم كان فتياً، فإنه لن يستطيع، بعدما جرت في نهر الوحدة مياه كثيرة ملوثة خلفت رواسب فوق الرواسب القديمة.


 


هذا لا يعني، بالطبع، أن الأوضاع في الشمال سوف تستقر تحت سلطة تقيم في الماضي، تستجر ثقافته، وتستعير أدواته، فهي بالجبروت قد تضعف نار المقاومة، ولكن إلى حين، ثم تضطرم النار وتشتعل.


 


المؤسف أنه ليس الحوثي وحده، وإنما جميع القوى التي تمتلك الأوراق القوية في اللعبة السياسية، لا تدرك أن الانتصارات والمكاسب التي تراها ممكنة في المدى المنظور، سوف تلحقها هزائم ساحقة في المدى التاريخي.


 


إن منطق الأشياء يقول بأنه كان على القوى السياسية، إذا فكرت وقدرت، ألا تلجأ إلى السلاح، وأن تتمسك بخيار الدولة الوطنية الواحدة والديمقراطية، وأن ترضى بالنظام الفيدرالي دونما إصرار على الأقاليم الـ6. لكن واقع ما كان أن الحوثي أشهر سلاحه قبل أن تطرح فكرة الدولة الفيدرالية بسنوات، ولم يكن اعتراضه على الفيدرالية سوى واحدة من الذرائع الواهية، فقد سبق وبسط نفوذه الكامل على صعدة، وعلى أجزاء من محافظات مجاورة. وحين أرسل ممثليه إلى “موفنبيك”، للمشاركة في الحوار الوطني، لم يتوقف عن الحوار بالنار في “دماج” وما حولها. ثم أهدته الحكومة الانتقالية ذريعة واهية إضافية عندما استجابت بسذاجة لضغوط صندوق النقد الدولي، ورفعت أسعار المشتقات النفطية. حينها كان يتقدم نحو العاصمة، ويدفع بالأمور على مسار تطورات متسارعة أوصلت البلاد إلى الحرب الشاملة في 26 مارس 2015.


 


الآن، وبعد 5 سنوات، ليس بوسعنا أن ننحي باللائمة على غريفيث، رغم تواطئه المكشوف. لكن السؤال هو عن أسباب فشل الحكومة اليمنية والسعودية التي جاءت لإنقاذها.


ولن أتحدث عن الإمارات، لأنها حررت الجنوب بقواتها البرية، واتجهت شمالاً إلى مدينة المخا وما بعدها، كما غطت بالأباتشي عمليات تحرير مناطق أخرى، بما فيها مأرب والجوف والساحل الغربي حتى تخوم مدينة الحديدة.


 


أما في فهم إخفاقات السعودية، تحضر مقولة الروماني “فيدر”: “الوفرة تجعلني فقيراً”، فقد افتتحت الحرب بغرور لافت، وقبل ذلك فإنها ارتكبت أخطاء فادحة عند إخراج قرارها. فلم يكن طلب المساندة ولا الموافقة عليه مفهوماً لدى أوساط واسعة من الرأي العام العالمي، لأن إيران لم تكن تعترف بتقديم دعم عسكري للحوثيين. والسعودية تلقت الطلب في 24 مارس، ونفذت الضربة يوم 26، كأن يوماً واحداً كان كافياً لتكوين التحالف ووضع خطط الحرب.


 


الخطأ الآخر أن إعلان الحرب لم يصدر عن وزارة الدفاع في الرياض، وإنما أعلنها سفير السعودية في واشنطن، بما يجوز تفسيره أنها حرب سعودية أمريكية على اليمن.


 


والحقيقة المعروفة أن الحوثيين استخدموا كل فنون استراتيجيات الدفاع والالتفاف والهجوم المضاد، حتى استراتيجية الردع الذي نقل الحرب إلى حدود السعودية، وقصفوا أراضيها بالصواريخ والطيران المسيّر.


 


على الناحية الثانية، خاضت الحكومة الحرب بمليشيات وجيوش متناثرة، وبلا خطط واستراتيجيات، وخاضتها بجنرالات بلا جنود في بعض الجبهات، وبعساكر يقودهم جنرالات مزيفون في جبهات أخرى.


 


لهذا تكرر استجداؤها المجتمع الدولي أن يمنع الحوثي من الانتصار، حتى وصل الأمر إلى البكاء من غريفيث اللئيم.


مع ذلك، فقد ظلت تصريحات المتحدثين العسكريين تتحدث عن أن “مليشيات” الحوثي تنهار، والجيش الوطني يزحف. وكانت الحقائق تظهر سريعاً، وتؤكد أن الجيش يزحف، ولكن إلى الخلف.


 


 

Exit mobile version