في أبريل 2005 وبعد تعيين “كونداليزا رايس” وزيرة للخارجية الأميركية بشهرين فقط، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تصريحًا لها كشفت فيه عن نية الولايات المتحدة استخدام “الفوضى الخلاقة” لنشر الديمقراطية في العالم العربي، وتشكيل “الشرق الأوسط الجديد”.
وثمّة باحثون، منهم الروائي الأميركي “دان براون”، يعودون بهذا المصطلح إلى أدبيات ماسونية قديمة..
وآخرون يُرجعونه إلى مصطلح “التدمير الخلاق” الذي ذكره النمساوي “جوزيف شامبيتر” في كتابه “الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية” عام 1942..
أو إلى مقولة: “من الفوضى يُخلق النظام”، لـ”نيكولو ميكافيللي” في كتابه “الأمير” منذُ خمسة قرون.
ولا ننسى “البيروسترويكا” وتعني: “الهدم من أجل البناء” التي استخدمها الرئيس الروسي الأسبق “ميخائيل جورباتشوف” في تفتيت الاتحاد السوفييتي.
ويمكن القول إنّ تبلور المصطلح واستخدامه بشكل مقصود بدأ مع منتصف العقد الأخير من القرن العشرين، بعد أن شهد العالم هزيمة المعسكر الشيوعي.. وتساقط جمهوريات الاتحاد السوفييتي.. وانتصار الفكر الليبرالي والاقتصاد الرأسمالي..
ثُمّ وضع شبكة “الانترنت” للتداول وتعميمها على الناس، بعد أن كانت رهينة البحث والتطوير في معامل “البنتاغون” لثلاثة عقود..
وكذلك رجوع المقاتلين العرب من أفغانستان بأجندات وأفكار تطالب بعودة الخلافة وتحكيم الشريعة..
واحتلال “صدام حسين” لدولة “الكويت” وتسببه في جلب قواعد عسكرية أميركية للخليج، كل تلك الأحدات والفوضى شكلت لاحقًا ما صار يُطلق عليه النظام العالمي الجديد..
في فبراير 2004 كتب الصحافي والباحث الأميركي “روبرت كابلان” تحقيقًا في مجلة “ذي اتلانتيك” الشهرية بعنوان طويل بدايته “الفوضى القادمة” حذّر فيه حينها من اندلاع فوضى في منطقة الشرق الأوسط خلال عشرين عاماً بسبب نضوب الموارد، وأهمها المياه، وزيادة النمو السكاني بين أوساط الشباب، و انتشار مساكن الصفيح، وأنّ ذلك سيتسبب في نشوء صراعات إثنية وعرقية يصعب السيطرة عليها، أو التفريق بينها وبين الإرهاب.
ولعلّ أهم حدثين شهدتهما المنطقة العربية تلك الفترة وحظَيا بدعم أميركي: انتصار نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح في حرب مواجهة الانفصال في اليمن.. وبعد أشهُر منها انقلاب وليّ عهد قطر “حمَد” على والده. وكانت واشنطن تُعوّل عليهما إلى جانب تركيا تبنّي مشروع الشرق الأوسط الكبير.. بنشر الديمقراطية غير المستساغة عند بقية الحكام العرب.
و”كابلان” هذا كان مراسلًا في الحرب العراقية الإيرانية، وبعدها حروب البلقان، كما غطّى المجاعة في اثيوبيا.. والملفت أنَّه بعد فوضى الربيع العربي التي ظهرت فيها فضائح قطر في ليبيا وسوريا، نَشر في 2013 مقالًا آخر عنوانه “الفوضى القادمة” قال فيه متسائلًا:
“ماذا لو لم تكن فوضى الشرق الأوسط سيئة، بقدر ما يُخيّل إلينا من منظار المصالح “الجيوسياسية” للولايات المتحدة؟”
وخَلُص إلى أنها مفيدة لأميركا.. لولا تبعاتها الأخلاقية!
وبذلك يمكننا القول إنَّ مفهوم “الفوضى الخلاقة” تطوّر من مصطلح عام، ومقولات متناثرة.. إلى نظرية سياسية تُدرّس في أقسام العلوم السياسية.. وتتحكم في صراعات القرن الحادي والعشرين بعد احتلال العراق عام 2003..
ويُجمع الباحثون على أنّ “مايكل ليدين” المفكر والباحث في معهد “أميركا انتربرايز”، هو أول من صاغ مفهوم “الفوضى الخلاقة” في معناه السياسي الحالي في تلك السنة، وكتب عنه في مشروع “التغيير الكامل في الشرق الأوسط”، حيث “ارتكز المشروع على منظومة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الشاملة لكل دول المنطقة، وفقًا لاستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم ثم إعادة البناء”..
وذهب فيه إلى تسويغ مذهب “القوة اللامتناهية”، ولو أدى الأمر بالولايات المتحدة لتدمير بلد صغير كل عشر سنوات.. وعلى حد قوله: “علينا تدميرهم كي نسير قُدمًا بمهمتنا التاريخية”.
ولَم يعد يخفى على الكثيرين أنّ ذلك ما خططت له “رايس”، ونفّذته إمارة قطر في عهد خليفتها “هيلاري كلينتون” فيما أُطلق عليه ثورات الربيع العربي..
وكلينتون زارت بعد الثورة التونسية خمس دول عربية، بينها قطر واليمن، والتقت سرًا في 11 يناير 2011 في سفارة واشنطن في صنعاء بقيادات أحزاب المشترك، وأقنعتهم بضرورة انخراط أحزابهم في ثورة الشباب.
وما يهمنا الآن هو التأمل في مصير الدول التي لم تنجُ من فوضى الربيع العربيّ، ومقارنة واقعها الراهن بما ورد من تنظيرات الفوضى الخلاقة..
وحالها إجمالًا لا يكاد يختلف عن الوصف الذي ورد في البروتوكول الرابع المنسوب لـ”حكماء صهيون” وهو ينُص حرفياً على أنَّ “كل جمهورية تمر خلال مراحل متنوعة: أُولاها فترة الأيام الأولى لثورة العميان، التي تكتسح و تُخرب ذات اليمين وذات الشمال. والثانية هي حكم الغوغاء الذي يؤدّي إلى الفوضى ويسبب الاستبداد. إنّ هذا الاستبداد من الناحيه الرسمية غير شرعي، فهو لذلك غير مسؤول”.
ومع أنّي من الأشخاص المشككين في حصر تلك البروتوكولات على حكماء اليهود ونسبتها لهم وحدهم، فقد أذهلني هذا البروتوكول بعد مقارنته بما يحصل منذ بضع سنين في معظم دول الربيع المجنون.. عدا تونس ومصر بالطبع، اللتين نجتا إلى حين.