مقالات

الصواريخ الحوثية.. رسائل الابتزاز الإيراني

 


بوصلة الإرهاب للنظام الإيراني لا يمكن أن تخطئها عين رغم الأربعين سنة من عمر النظام الإيراني إلا أن مخيّلته مازالت تحبو عند نقطة التحرر من حكم الشاه ونشوة استقبال الخميني القادم على متن الطائرة الفرنسية التي أقلته من باريس في إشارة اعتقدت معها الجماهير الإيرانية، بشعوبها المختلفة، أن ثمة رابطا في التجربة الإسلامية الجديدة مع بناء الدولة المعاصرة لتأثرها بمجرى تجاربها وبتطورات العقل الغربي ووسائل إنتاج العلوم الحديثة في التكنولوجيا والبحث والانفتاح على العقل الإنساني، دون عقد أو حدود ظلت العديد من المجتمعات أسيرة لمعتقلاتها في فكرة الاستقلال القاصرة عن فهم أسباب التقدم الحاصل حتى في دول مقيدة بالقرارات الأممية، نتيجة لهزيمتها في الحرب العالمية الثانية وإذعانها لصوت الحقيقة وإصغائها لنداء البدائل في النهوض وإثبات الذات، مع التأمل في مآسي الحرب لتدارك أزمة جمودها الفكري عند حواجز التعصب.


ما ساعد على بلوغ الأوهام مرحلة الهياج في العقل الجمعي الإيراني أنها جاءت على أنقاض صدى ثورة محمد مصدق وتضحيات أحزاب تقدمية ووطنية، مع عدم إلغاء دور الشخصيات والرموز الدينية كالخميني الذي كان يحتمي بنظام علماني عربي يقود العراق ويحظى برعايته المادية والمعنوية هو وأتباعه، دون قيود أو منع من وجوده في الحوزات الدينية في كربلاء والنجف.


كان الخميني على اطلاع بنفائس البيت العراقي في السياسة والاقتصاد، وشاهدا على تجربة تنموية استثنائية امتدت فضائلها إلى دول عربية وأخرى في قارات مختلفة في طروحات توخت التواصل وعدم الانغلاق، أسفرت عن جسور ثقة وتطمين حتى للدول الكبرى لعبور ردات الفعل الناتجة عن تأميم شركات النفط العائدة لها من مصدر رؤية استراتيجية تتخطى الأمية والأمراض المستوطنة والانتقال إلى مجتمع عصري يتعكّز على العلم والتخصصات وإنشاء الجامعات وابتعاث الطلاب إلى أفضل الصروح الأكاديمية مع دورات نموذجية في كبريات الشركات العالمية. الخميني واكب كذلك نشأة الأحزاب الطائفية وتوجهاتها، وتعرّف على أفكارها وميولها وخبايا أنشطتها مع قراءته المعمقة في الأوراق الكردية المبعثرة بين إيران والعراق.


لذلك فإن ارتدادات سقوط الشاه ومجيء الخميني إلى السلطة في فبراير 1979 سرعان ما عصفت بالوضع السياسي في العراق، لتكون بداية لمشوار التناقضات والحروب بما انتهت إليه من الاحتلال الأميركي، وما تلاه من سنوات التراجع والانهيار وسقوط العراق في أوحال مستنقع الهوس الإيراني.


من بين المبرّرات الأوروبية في العلاقة مع طهران بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، الإبقاء على برنامج إيران تحت إشراف المنظمة الدولية للطاقة النووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية، دون الالتفات إلى تمدد الإرهاب الإيراني في المنطقة وما جرّه من ويلات على الشعوب، رغم أن أوروبا تستشعر خطر تصاعد العمليات الإرهابية الذي ارتقى إلى درجة الإنذار القصوى تجاه التهديدات؛ بعض تقارير الاستخبارات تتراوح بين الكشف عن محاولات اغتيال لشخصيات مهمة، وبين إحباط هجوم بقنبلة كيميائية أو ردود فعل مضادة.


الاتحاد الأوروبي يعاني تماما من الانفصام بين مصالحه وقفزاته الحضارية والعلمية من جهة، وبين تهافت دوره الإنساني والأخلاقي تجاه معضلات حقيقية تعاني منها البشرية بسبب الإرهاب والفقر وانعدام الأمن من جهة أخرى، وأوروبا ليست بمأمن من معاناتها ومنها قضية اللاجئين وتداعياتها المستمرة وضغطها على الاستقرار في مجال الدفاع المشترك، أو زعزعة اتفاقية شنغن، أو على مستوى التباين داخل النظام السياسي للدول وآخرها أزمة القارب المحمّل باللاجئين بين إيطاليا وفرنسا الذي استقبلته إسبانيا بعد قلق وجدل.


العقوبات على نظام الملالي أسفرت عن هروب الشركات لأنها تقرأ مصالحها بعناية لا تخلو من توقعات انهيار النظام الإيراني، لكن لماذا تلجأ أوروبا إلى إمداده بالمعنويات وقبول المساومة مع النظام في محاولة لطمأنة الشركات بإيداع الأموال في البنك المركزي الإيراني؟


إذا أردنا أن نفهم عقلية النظام في طهران فلنتتبّع لسان قادة ميليشياته لأنه يعبّر من خلالهم عن نهجه في رصد أثر العقوبات ورده عليها بتمدد إرهابه في لغة طالما تم فيها تعميم التخريب على كل من يمتلك خارطة طريق إلى المستقبل ولديه رؤية في التنمية والإعمار باستغلال مفرط لحساسية الدول المستقرة من هواجس الاستهداف.


لذلك فإن الصواريخ الباليستية الإيرانية من الحوثيين باتجاه التجمعات السكانية في المملكة العربية السعودية تستخدم كرسائل عملية وعلى الأرض لما يمكن أن تتعرض له أوروبا في حالة الانسحاب من الاتفاق النووي، وتأتي التهديدات الإيرانية وتوعدها بإشاعة الرعب في المنطقة والعالم ترجمة لخلفيات الفكر الميليشياوي الأقرب إلى البرقيات عندما يبشّر أحد زعمائها بقرب ظهور “المهدي” في إشارة بالغة الدلالة إلى تبنيهم سياسة التخريب وخلط الأوراق، خاصة بعد تلقي مجموعة منهم ضربة بالصواريخ على الحدود السورية العراقية أثارت لغطا واسعا في صفوفهم ومعها مروحة تهديدات هستيرية.


بعضهم يتبجّح بالخوف من الإرهاب الإيراني وذلك بمهادنته، كما تفعل قطر في بحثها عن مبرر لحماية أمنها ومكتسباتها الاقتصادية رغم أن على أراضيها أكبر قاعدة أميركية؛ لكن ماذا عن أوروبا وبعض دول العالم الكبرى من الذين لا تخفى عليهم أوجه الإرهاب الإيراني في العراق وسوريا واليمن ولبنان وأنشطته في البحرين والكويت وغيرهما من الدول.


بوصلة الإرهاب للنظام الإيراني لا يمكن أن تخطئها عين، فأماكن الاستهداف هي الحجة والدليل، إذ لا توجد عملية إرهابية واحدة استهدفت الجغرافيا الإيرانية من الدول التي تعاني من صنوف مداخلات إيران الميليشياوية أو الطائفية في السياسة وسطوة السلاح أو الإعلام، وصراحته البالغة في التحريض وتحديد النوايا ومقاصد المشاريع من احتلال العواصم العربية إلى تدمير المدن، وصولا إلى ما يعبرون عنه في مجالسهم ويطلقون عليه “فتح مكة” في مقدمات أطروحاتهم لتدويل الشعائر الدينية في المملكة العربية السعودية، وبإشهار من يتضامن مع تلك الأطروحات ويروج لها أو في الاعتداءات الميدانية والتثقيف على فتنة تتصاعد يوميا، كرد مقابل على ما يجري من استمرار تظاهرات الشعوب الإيرانية واعتصاماتها أو صومها الذي يطلق عليه “اعتصاب غذا” كوسيلة ضغط لإطلاق سراح المعتقلين، أو الكف عن الحماقات في نشر الإرهاب وتجاوز تفاقم آثار العقوبات على العملة الإيرانية ولقمة العيش.


الأسئلة الآن تتراوح بين المواقف الأوروبية من الإرهاب الإيراني، وبين مواقفها من الاتفاق النووي وقضايا الهجرة وزيادة المحاذير الأمنية داخل دول الاتحاد الأوروبي، وانعدام الموقف الحاسم من التداعيات المتتالية التي تسبب موجات اللجوء وتكرار القلق الأممي من قضايا تدعونا إلى الشك بما أنجزته الإنسانية، وأوروبا تحديدا.


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى