قطع راشد مشورا طويلا، مشيا، كعادته كل صباح.. كان مشتاقا لرؤية كل شيء كما كان في قريته، قبل الحوثيين والنزوح والحرب..
عادة يجد راشد متعة في الجلوس على المرتفعات لينظر منها إلى أقصى مدى في كل الجهات ..عند ما هم بالقعود على تل كان يعتاد القعود عليه في سنوات عمر مضت، وجد أنه قد ارتفع كثيرا، وصار جبلا شاهقا جدا، ووعرا أيضا.. نظر مُغَرِّبا فوجد أنه قطع مسافة طويلة في المشي ذلك الصباح ..ورأى راشد أن المسافة التي تفصله عن دار جده لأمه قد تضاعفت عما كانت عليه، مرات.. تأمل في الجهات كلها ، فتبين أن المسافات تباعدت كلها، وتبدل الشيء الكثير، في كل شيء..
حان وقت صلاة الجمعة، ودخل راشد المسجد، لكنه ليس المسجد الذي اعتاده من زمان، وأسهم كثيرا في بنائه ، وكان جميلا ونظيفا وواسعا وقريبا ..تعرض المسجد الكبير للدمار ، وأعيد ترتيبه وبناءه بعد ذلك سكنا للمشرف، وصار جزء منه مقيلا للقات.. صار المسجد الجديد، الذي بدا أنه بني على عجل، بعيدا عن القرية، ويكاد أن يكون في مكان ناءٍ خالٍ من السكان، خلف الجبل، الذي كان تلاً وصار شاهقا ..بدت المسافات كبيرة ومتباعدة، والتلال والجبال صارت أكثر ارتفاعا ووعورة .. أما الناس فقد بدو في حالة رثة، وأحجام أصغر، وكلهم يلبسون ملابس ذات لون نيلي غامق.. وقبل الصلاة، بدا كل شخص منكفئا على نفسه أو مطرقا إلى الأرض ومشغولا في حاله، ولا يكادون يبالون بشيء .. اكتظ المسجد بكثيرين جلهم شباب نحيلين وقصاري القامة ، في حالة توهان وفوضى ، وبدا أن راشد لا يعرف أحدا في المسجد، ولا أحد يعرفه، مع أنه مسجد القرية ، مسقط رأسه، أو هكذا يفترض.. خلصت الخطبة والصلاة بسرعة استثنائية ، بلمح البصر .. وهو يهم بالخروج، فكر راشد أن يتحدث إلى الناس بعد الصِّلاة كما كان يفعل من قبل، لكنه بدلا عن ذلك، تحدث وهو يمشي على عجل باتجاه الباب، كمن يهمهم ، وكمن يشعر بصدمة وغربة، ويعبر عن خيبة أمل كبيرة .. وقال : كنت أود لأبنائكم هؤلاء أن يتعلموا .. آه ليتكم سمعتموني، كان الحال أفضل..!
وعندما كان راشد خارج المسجد، تذكر أنه لم ير علي الذي لم يغب عن باله أبدا طوال السنين ، وهو لم يَرَ كثيرين أو في الحقيقة لم ير أحد في المسجد، ممن كان يعرف ، وتساءل عن علي..؟ فلمحه على مسافة، وكأنه بُعث من تحت الأرض مخترقا الجموع، فجأة .. فاقترب منه، ولاحظ راشد السرور بادٍ على وجه علي ، وهو في حال أشبه بما كان عليه قبل ثلاثين عاما.. وتعانقا، وسلم راشد على شخص كان بجانب علي ، متسائلا في أدب ، من هذا..؟ فقال علي في عجل : هذا عمي.. ويقصد علي أنه والد زوجته..! فتبسم راشد وقال : إنه يشبهك..! وهو يشبه علي في الشكل فعلا، عندما كان عمر علي عشرين عاما.. ولم يعلق راشد كون العم بدا في سن إبن علي .. بدا علي مسرورا جدا، وألح على راشد أن يتغدى عنده.. ما يزال علي كريما كعادته.. كان يلح على راشد بعزومة الغداء، بإصرار ولكن بهدوء، فلم يرتب للمة أكبر على الغداء في ذلك اليوم..
على الفور، طلع في بال راشد البحث عن شخص آخر، صالح، قريب وزميل عزيز من زمان الصبأ.. فإذا بِه هو أيضا في مكان آخر يدير شأن مدرسة، وضعت في مكان ناءٍ وبعيد أيضا، لا تشبه مدرسة البنات الضخمة التي كان يديرها صالح زمان، ودمرها المجاهدون الحوثيون بسبب تمترس الدواعش الأمريكيين والإسرائيليين فيها، أو هكذا يقدر الحوثيون ويدعون.. بدت المدرسة الجديدة من فصل واحد فقط، واسع نسبيا ، شبيه بالمسجد الجديد، وبنيت على عجل من الطوب الإسمنتي، مثل المسجد أيضا، وحال الطلاب فيها رثة، والاكتظاظ كحال المصلين في المسجد .. بدا أن كل شيء يبدأ من جديد، من الصفر تقريبا، وما دون الصفر..
كثير من الأهل والأصحاب قد غيبهم الموت في زمن الحرب، قتلا، أو موتا طبيعيا، كمدا ربما .. وحدهما، صالح وعلي بقيا على عهدهما وشبابهما وحيوتهما.. ما يزال الأمل يبرق في عيني علي مثلما كان الحال قبل عقود.. وما يزال يبدو شابا، وتزوج بأخرى كما يبدو..!
أُذِّن للفجر ، واستيقظ راشد فإذا به ما يزال في المنفى، على مسافة خمسة آلاف كيلو متر من قريته، وما يزال المجاهدون الحوثيون هناك، يخوضون حربهم ضد المنافقين اليمنيين والأمريكيين واليهود في اليمن، أو هكذا يقولون ..وما تزال الفوضى عارمة والدمار شامل، والمشردون بالملايين، وإعادة الإعمار لم تبدأ بعد.
اللهم أجعله خيرا..!
* سفير اليمن لدى الأردن
من صفحة الكاتب على الفيسبوك