في زمن المليشيات
كل شيء في زمن المليشيات له وجه آخر غير الذي كنا نعرفه من قبل.
الطريق الذي كنا نسلكه في ساعة واحدة واحنا آمنين، صرنا نسلكه في خمس ساعات واحنا خايفين، ونقاط التفتيش التي تقف في منتصف الطريق أصبحت موعدا يوميا مع المهانة والإحساس بمرارة الغربة في بلادك.
وفي كل طريق تسلكه عليك أن تكون مهموماً ببطاقتك الشخصية وبعائلتك وبحارتك وبانتمائك الحزبي والمناطقي والجهوي حتى ولو لم تكن مهتماً بتلك الأشياء من قبل فأنت الآن في زمن المليشيات الواقفة على عتبات كل مدينة وعليك أن تواجه مرارات السؤال: من أين أنت؟ فين رايح؟ من فين جاي؟
في زمن المليشيات، الموت بسيط، والقتل لايحتاج إلى أي مبرر، وكل الطرق أصبحت مسارات محفوفة بالمخاطر وبمنغصات الوصول بحمد الله وسلامته إلى البيت، ولقد قالها أجدادنا زمان الله يسامحهم “ربنا باعد بين أسفارنا” وها نحن الآن في أسفار ثقيلة. ولإن قالوا للسفر فوائد سبع فإن الفائدة الوحيدة من السفر، في زمن المليشيات، هي أن تصل إلى بيتك بسلام وبأقل كلفة ممكنة.
في زمن المليشيات، الوجوه التي تراها في الطريق واجمة، والباعة في المحلات ضجرون في انتظار زبون يبتسم، والسفر بين القرى والمدن عملية انتحارية، وكل طريق ملغوم بالمبندقين، وكل المبندقين يبحثون عن خصوم مطلوبين وعن خصوم محتملين، ومن حسن حظك أن تتوقف في نقطة تشاهد فيها عسكري مرهق يقلك أي خدمات.
في زمن المليشيات، يصبح البلد مجرد دكاكين لقطاع الطرق المنتشرين هنا وهناك، وتصبح المدن سجونا صغيرة لأناس يقفون مدججين بالبنادق على مداخلها في مهمة لامتهان الرايحين والجايين تحت مبررات حماية البلد من فوضى محتملة.
في زمن المليشيات، كلهم يتحدثون عن حماية الأرض وحماية الحدود وحماية المدن، ولا أحد منهم يتحدث عن حماية الإنسان، لأنه لم يعد هناك في الأساس دولة تحمي مواطنيها وأراضيها وكل الذي هم موجودين شوية تافهين يترزقون من معاناة الناس في بلد كسير.
في زمن المليشيات، لامستقبل للمدنيين، والاعتصام بحبل الدولة يشبه الاعتصام بحبل تالف ولايستحمل أبسط عملية شد، وما الذي سيكون عليه حال مدنيين راهنوا في حياتهم كلها على عود الدولة وعلى حبلها المتين واستيقظوا في غفلة من الزمن على مليشيات لها شروطها الخاصة في الحياة، وهي شروط لاتنسجم بأي حال من الأحوال مع متمدنين كانت الدولة أبوهم وأمهم وأصبحوا من دونها أيتاماً يتعرضون للابتزاز وللمهانة في كل طريق وفي كل مسلك.