مقالات

الصراع على الحديدة

 


هناك جديد قليل في الأزمة اليمنية، وضجيج كثير، مبعوث أممي جديد، وتطور متعثر في مسار الحرب، قصدت الإنجاز بالهجوم الصاعق على جبهة الساحل الغربي، الذي يستهدف الحديدة وميناءها، وكان الاعتقاد ولا يزال أنه على هذه الجبهة، وعلى جبهة الجوف صعدة يتحدد مستقبل الحرب، خصوصاً بعد المراوحة الطويلة في نهم؛ لكن جبهة الساحل بالذات تكتسي أهمية فائقة؛ من حيث إن النجاح فيها سيُمكن الحكومة من وضع أصابعها في القصبة الهوائية للحوثيين؛ فتمنع عنهم إمدادات السلاح، والدعم اللوجستي، الآتي من إيران مباشرة.


وسيترتب على طرد الحوثيين من الساحل نزع ورقة تهديد الملاحة الدولية، كما يحرمهم أكبر موانئ اليمن البحرية؛ ( الحديدة)، ويرفع أيديهم عن أكبر صوامع الغلال في ميناء الصليف، ويحد من استغلالهم مواد الإغاثة، والمساعدات الإنسانية. غير ذلك؛ فإن تحرير الساحل وحصر الحوثيين في الجبال يهز معنويات رجالهم، ويربك خططهم، مقابل رفع عزيمة الشعب اليمني، وقواته المسلحة، وتعزيز ثقتهما بالنصر، ويضاعف من التصميم على متابعة القتال حتى سحق العصابة المسلحة.


والحق أن معركة الساحل تأخرت كثيراً، وكان اللازم أن تأخذ القوات فترة استراحة تعبوية قصيرة؛ بعد تحرير المخاء ومعسكر خالد ثم تندفع على طول الطريق إلى الحديدة، دون أن تترك وقتاً كافياً للعدو يستعيد أنفاسه ويعد عدته. مع هذا فعندما تقرر الهجوم لم تجد القوات صعوبة في الزحف السريع، والوصول إلى أبواب الحديدة، والاستيلاء على مينائها الجوي، وتم التوقف لإعطاء المبعوث الأممي فسحة من الوقت يحاول خلالها إقناع الحوثيين بالانسحاب دون قتال.


وهم عرضوا في ساعات التقهقر أن تشارك الأمم المتحدة بدور رئيسي في إدارة الميناء دون أن يعطوا إشارة على استعدادهم لتسليمه، فضلاً عن الانسحاب وتسليم السلاح.


إن خبرة التعامل مع الحوثي تقدم أدلة كافية على أنه غير مستعد لأي تسوية سلمية مهما تعاظمت أرباحه السياسية فيها، وسوف يقاتل حتى خراب مالطا.


مرد ذلك سبب يخصه، وآخر يخص إيران؛ من ناحيته لا يريد أن يفرط بفرصة ظلت تراود جماعته على مدى خمسة عقود، قضت نصفها في الإعداد التنظيمي والعسكري، وخاضت من أجلها ستة حروب متفرقة ثم هذه الحرب السابعة، التي ابتدأت قبل سنوات؛ يوم فتح النار في دماج وعمران على الطريق إلى صنعاء والاستيلاء على السلطة. ومن ناحية إيران؛ فإنها لا تنوي التراجع عن تصدير المتاعب لجيرانها القريبين والبعيدين، مدفوعة بهوس إحياء الإمبراطورية الفارسية القديمة، وهي تستخدم لذلك أحط الوسائل حين تعمق الشرخ الطائفي في العالم الإسلامي وتصدر الموت مع الميليشيات إلى أرجاء كثرة في محيطها.


ثمة أوهام أن الضغوط والعقوبات الاقتصادية، التي اتخذتها الإدارة الأمريكية مؤخراً بعد انسحابها من الاتفاق النووي يمكن أن تجبر إيران على التخلي عن موضوعي الصواريخ الباليستية والتدخل، والحقيقة على عكس ذلك تماماً، فإن نظام الملالي يهرب من فشله في الداخل إلى البحث عن أمجاد زائفة في الخارج، ويواجه تدهور الاقتصاد وانهيار قيمة العملة، وأزمة المياه الطاحنة؛ بإطلاق الصواريخ في الهواء، كما أنه يراهن على القمع؛ لإخماد الغضب والثورة الشعبية إلى درجة أنه لا يزال بعد أربعين سنة يلاحق معارضيه، ويقتلهم في الخارج؛ ذلك يرضي الحوثي بالطبع، ويلبي شهوته إلى الحرب، ولهذا رأيناه يستغل الإحجام عن اقتحام الحديدة ويذهب إلى حشد مزيد من المقاتلين؛ حيث يحفرون الخنادق في المدينة، ويقيمون الحواجز في الطرق، وفي محيط الميناء؛ ترتيباً لمعركة يراهنون على استحالتها من إدراك أن الحكومة اليمينية ودول التحالف لن تقدم على تدمير الحديدة فوق سكانها.


ولربما في هذا المناخ قد يقبل بالعودة إلى المفاوضات؛ كي يستثمر الوقت في إحداث تغييرات على الأرض، مراهناً على الطبيعة البشرية، وفيها أن الجيش المهاجم إذا لم يحقق انتصاراً سريعاً يدرك الملل رجاله في وقت تتعزز الثقة في نفوس الجيش، الذي يقاوم ويصمد؛ ذلك يستدعي من الحكومة، وهي تعرف أن من العبث المراهنة على حل سياسي، ألا تضع في يد «غريفيث» شيكاً مفتوحاً بالوقت، وأن تصر على مدة محددة للتفاوض وتتمسك بحقها في التصرف بعد انقضائها، وعلى أن تكون الحديدة في جدول الأعمال خلال هذه المدة، حتى لا تؤخذ إلى دروب ومتاهات تمنح الحوثيين وقتاً فائضاً؛ لتغيير الحقائق على الأرض علاوة على ما تشكله إطالة الحرب من أعباء على الناس وعلى البلاد.


ولا أظن أن غريفيث يستطيع إنجاز ما عجز عنه من سبقه، ما دام الحوثي ومن خلفه لا يريدون السلام، ولسوف تجد الحكومة اليمنية نفسها ملزمة بتحرير ميناء الحديدة دون حاجة إلى رخصة من الأمم المتحدة؛ لأن الدستور يخولها والقانون الدولي يجيز لها أن تقمع أي تمرد يهدد السلم الأهلي، والسكينة العامة، وأن تحمي السيادة الوطنية أمام عدوان إيران المكشوف.


والقوات هناك قادرة على إنجاز المهمة بتكتيكات حربية ذكية توفر عليها عبء حرب شوارع داخل المدينة؛ من خلال إنزال جوي وبحري في الميناء والمواقع الاستراتيجية على الطرق الرئيسية، وأن تضرب حصاراً خانقاً على المليشيات يجبرها على الاستسلام.


إن معركة الحديدة فاصلة في الحرب، والصراع عليها، صراع على اليمن، ضدها بالهزيمة أو معها بالنصر.


 


 

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى