مقالات

رؤية التعصب الكُروي

 


التعصب واحد من الآفات المقيتة التي تنخر كيانات المجتمعات، بما فيها تلك التي أحرزت نصيباً وافراً من المعرفة، وحققت تقدماً مبهراً على طريق المدنية الحديثة. والتعصّب يتجلى في صورته الأسوأ من موقف الإنسان تجاه أخيه الإنسان، بسبب لونه أو عرقه. ولم تسلم من مخاطره حتى الأنشطة التي توصف بالقوى الناعمة، كالألعاب الرياضية التي أدركها حال من التعصب كاد يفقدها طابعها الإنساني، وما كان لها من دور في التقريب بين إنسان الشرق وإنسان الغرب، وخفّفت أو كادت تحفّف ما كان سائداً من خلافات قومية وعرقية بين أبناء الشمال الأوروبي وأبناء الجنوب الإفريقي، وتمكنت في هذا المجال، خاصة من إلغاء المسافات بين إنسان الشعوب المتقدمة وإنسان الشعوب الأخرى، التي لا تزال تعاني آثار التخلّف.


وبعد غد الأحد ينتهي في مدينة موسكو مونديال عام 2018م، بعد أن كان مناسبة للفرجة من جهة وللانفعالات المختلفة من جهة ثانية، كما نجح في إبعاد جمهور واسع من سكان هذه الأرض عن متابعة ما يجري في بعض أجزائها من حروب وما يتم استنزافه من دماء. لكن هذا المونديال بكل ما توفّر له من تنظيم وما رافقه من رقابة حاسمة وحازمة لم يسلم من النقد ولا خلا من الشكاوى. والأسوأ أن التعصب كان من أبرز سماته، سواء في الميدان، أو ما كانت الفرق التنافسية تبديه من توحّش وقسوة في المواجهة أو ما كان يظهره المشجعون من مواقف عدوانية واستياء كاد يتحوّل في بعض الأحيان إلى معارك بالأيدي والأقدام، وكأننا في ساحة حروب لا في ميدان ألعاب، لا يتوقف على الفوز فيها ما يتوقف في الحروب من تغييرات وتبدل في المواقع.


ونتذكر جميعاً أن الألعاب الرياضية، ولعبة كرة القدم، خاصة بدأت من قاعدة التمسك بالروح الرياضية واحترام كل فريق للفريق المنافس واعتباره طرفاً ضرورياً لنجاح اللعبة وليس خصْماً ينبغي الانتقام منه وتركيعه، إرضاءً لنزوة ذاتية وشعور عدائي مسبق، تتحوّل معه كرة القدم إلى صاروخ معدّ للانفجار في وجه الخصم، وتدمير تحصيناته. وإذا ما استمر هذا الحال على ما هو عليه، فإن مستقبل هذا النوع من الرياضة معرّض لخطر الإلغاء، أو الوصول ببعض الفرق ذات المستوى الحضاري إلى عدم المشاركة، حفاظاً على اللاعبين وأخلاقياتهم وحرصاً على الدور المسالم والعقلاني من جانب المشجعين الذين يسهمون في تسخين الملعب لا إحراقه.


وإذا كانت ألعاب كرة القدم الخالية من التعصب قد أدّت إلى فتح جسور بين بعض الشعوب بعد سنوات من القطيعة والخصام السياسي، فإن بعضاً من هذه الألعاب قد أدّى إلى قيام حروب وإلى إيجاد حالة من النفور والعداء بين شعوب أخرى، وهو ما يستدعي من القائمين على هذه الأنشطة قدراً من الوعي والتركيز على دراسة العوامل الاجتماعية والنفسية التي أدّت إلى مثل هذا التحوّل المثير للقلق، وإلى التعصب الخارج عن نطاق ما كان سائداً في هذا المجال خلال العقود الأولى من القرن العشرين، قبل أن تنحدر القيم ويطفو التعصّب بكل أشكاله وألوانه وتداعياته المقيتة.


 

زر الذهاب إلى الأعلى