مقالات

ورثة الكتاب (2)

 


 كُلَّما ذَكَر الأخ حسين الحوثي اصطفاء ذريّة فاطمة الزهراء وتوريثهم الكتاب، ذَكَر قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، على أنهم المعنيون بالآية دون سواهم! وكلامه غير صحيح من عدة أوجه منها:


1- تأكيده على أن ذرية السيدة الزهراء هم المختصون بوراثة الكتاب ما هو إلا مجرد دعاوى فَرَضها على الآية، والدّعاوى المجردة لا تُقبل حتى في استحقاق (بيضة دجاجة) أو (قبضة من قَشّ)، فيكف بالاختصاص بميراث دِين الأمة واحتكار كِتابها! ولو جاز قبول الدعاوى المجردة لجاز لكلٍ مَنْ شَاء أن يدعي ما يَشَاء، وأمكن أي جماعة أن تَدّعي أنهم {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ}، دون سواهم من الناس، ويأتون بتأويل أو مقولة عن بعض أسلافهم، وانتهى الأمر!


فإذا كان الحوثي نفسه يرفض أن يكون قول الله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} نزلت في «الذين بايعوا تحت الشجرة» مع أن النص صريح فيهم! فكيف يَقْبل هنا تخصيص آية اصطفاء الأمة بأهل البيت وليس لهم ذِكر فيها ولا إشارة في سياقها؟


2- لم يُرو شيٌ يؤيد ما يدعي الحوثي في تفسير الآية؛ لا عن النبي صلوات الله عليه، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم، بمن فيهم الإمام علي والصديقة الزهراء والسبطين الحسنين.. لا من طريق أهل السنة ولا من طريق الزيدية.. ولا بإسناد صحيح أو ضعيف!! فقط لمجرد أن بعض المنتسبين إلى فاطمة قالوا: نحن الذين اصطفانا الله والآية تَعنينا، وقد أجمعنا على أنها نزلت فينا، وإجماعنا حجة!


بل رُوي خلاف ذلك، حيث جاء من طرق مُختلفة وبأسانيد متعددة عن النبي وبعض الصحابة[1]، أن الآية تتحدث عن توريث أمة محمد كتابَ نبيها، لتعمل به وتحمل رسالته، حالها حال الأمم السابقة، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ}. فليس للحوثي مستند من كلام النبي أو حتى من تفسير وفَهم الجيل الأول من المسلمين بمن فيهم جيل المئة الأولى من أهل البيت.


3- تفسير الحوثي مخالف لكثير من نصوص القرآن؛ الذي ينص على أن أمة محمد كلها وارثة لكتاب نبيها مسؤولة عنه، كما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وقال: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. وقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}. ومفهوم «أمة» يختلف – في خصائصه البيانية – عن مفهوم «أسرة» وما في معناه؛ فالأمة هي ما تَجتمع على أمر باختيارها، بنما الأسرة تنتمي إلى رِبَاط ليس لها فيه اختيار.


ولو صح كلام الحوثي في أن المصطفين معينين بأسرة واحدة لما كان لقول الله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فائدة، إلا إذا كان الخطاب لهم وحدهم.


4- سياق الآية لا يوحي بشيء مما يدعي الحوثي؛ بل يوحي بما اتفق عليه جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين وسائر علماء الأمة ، وهو أنها تتحدث عن التعامل مع كُتب الرسالات، حيث بدأت بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ…}، ثم بينت كيف تؤيد الكتب بعضها بعضاً فقال: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، وختمت بأن الله أوْرث أمة محمد كتاب نبيها، فقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}، فقال «من عبادنا» ولم يقل «من مِلّتنا أو أمتنا» ومن المعيب – بيانياً – أن يقول القائل: «اخترت من العرب». وهو يريد «اخترت من اليمنيين». فالتّبعيض يكون من الدائرة الأقرب وليس الدائرة الأبعد.


5- جاء القرآن الكريم ومن مقاصده إنهاء التمترس بالعصبيات بشتى أنواعها بما فيها العصبيات العِرقية، فاستنكر مزاعم بني إسرائيل بالتميز لكونهم بني إسرائيل، ورد عليهم حين قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه!}. بقوله: {بَلْ أنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ}. ورد على قريش حين ظلوا يفاخرون بأعراقهم، فقال: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}؟! وأكد للجميع بأن التَّميز {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ.. مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}.


 والخلاصة: أن اختزال «الأمة» في «أسرة»، واعتبارها وحدها وارثة الكتاب، مجرد فكرة عُنصرية لا مستند لها سوى المزاج العصبوي الذي يتنافى مع قِيَم الدين وتوجهات القرآن الكريم، ولا أعتقد أن أهل البيت أو غيرهم يتأفّفون أن يكونوا جزءا من أتباع الملة كنظراء لهم لا مصطفين عليهم، وكإخوة لهم لا أسيادَ عليهم.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الهامش:


[1] الروايات في هذه كثيرة يمكن مراجعتها في كتب التفسير الموسّعة، كجامع البيان للطبري والدر المنثور للسيوطي وغيرهما.


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى