مقالات

الخـُرافة في أحاديث الخـلافة؟!

 


خلال عامي (1987- 1989) عاد تيار “أهل الحديث” للازدهار في السعودية، مُستقويًا بما صار يدَّعيه عن صُموده وانتصاراته في”أفغانستان”، وحمايته للعالم كله -وليس الإسلامي فقط- من مخاطر التمدُّد الشيوعي، الموصوف بالتوحش والبربرية.


ودخل الخارجون من السجون – بسبب مُشاركتهم في احتلال الحرم – مع رفقائهم السابقين الذين انشقوا من “الجماعة السلفية المُحتسبة”، في نقاشات مُطوّلة، احتضنتها جواخير “الجهراء” في الكويت، وانضم إليهم “عصام مُحَمّد طاهر البرقاوي”، المشهور حاليًّا بكُنية “أبو محمد المقدسي”، انتهت بالتجمع خلف “أسامة بن لادن”، وتأسيس تنظيم القاعدة.


و”المقدسي” انتقل من مسقط رأسه في قرية “برقة” الفلسطينية إلى الكويت، وتأثر هناك بالقيادي الإخواني ”يوسف عيد” -إمام مسجد “الخلف” وزميل ”سيد قطب“ في المُعتَقل (عام 1965)، ومسؤول “النظام الخاص” للإخوان في “شُبرا الخيمة”-. ناهيك عن انتسابه للتنظيم السروري المُنشق عن “الإخوان“، واقترابه -لفترة- من أمير التنظيم ”محمد بن سرور” الذي فصله بعد خلاف معه.


وصار المقدسي منذ (1994) مُنظِّر الفكر الجهادي السلفي، والمرجعية الفكرية لـ”تنظيم القاعدة”.


على أنّ تنظيم “القاعدة” بدأت فكرته داخل المعسكرات التدريبية التي كلّف أسامة بن لادن مُساعده المصري “على أمين الرشيدي” المُلقب بـ”أبي عُبيدة البانشيري” بتأسيسها نهاية عام (1987)، وخصصها لتدريب وتأهيل المقاتلين العرب، ومن أهمها معسكر “صدى” على الحدود الأفغانية، الذي تولى قيادته ضابط إخواني سوري لقبه “أبو برهان”.. ومعسكر “خلدن” تحت إمرة “أبو بنان الجزائري” و”ابن الشيخ الليبي”.. وإلى جانب التأهيل القتالي كانت تُلقى على المتدربين في هذين المُعسكرين محاضرات ودروس تعبوية بعد صلاة الفجر، وبين صلاتي المغرب والعشاء، -تفرّغ لها الدكتور ”عبدالله عزام“ مع استضافته مشايخ بارزين مُنتمين للسلفية الجهادية وتنظيمي الاخوان والجهاد- كُرِّس غالبها لتأصيل فرضية الجهاد، والحديث عن الفرقة الناجية، وبشارات ظهور المهدي واستعادة دولة الخلافة.


ثُمّ تبلور التنظيم، بعد اجتماعات ونقاشات متكررة، استمرت زُهاء عامين، مع قيادات الفصائل المقاتلة في أفغانستان مثل: سيد إمام الشريف، أيمن الظواهري، عبدالله عزّام، أسامة بن لادن، اتفقوا خلالها على توظيف أموال “بن لادن” مع خبرة جماعة ”الجهاد” في مواصلة القتال، في مكان آخر، بعد انسحاب السوفييت من أفغانستان. وكان “بن لادن” -بتأييد من الظواهري- يُفكر بتمويل حرب عصابات غير عسكرية، تستهدف الاشتراكيين في جنوب اليمن، والمصالح الأجنبية في بعض الدول الإسلامية..


وفي المقابل كان عبدالله عزَّام يرى أهمية تدريب المجاهدين لتحرير فلسطين، ويمنع تحريضهم على القتال في أي دولة عربية أو إسلامية.. وأسفر خلافهم هذا عن اتهام الظواهري لعزَّام بالسطو على التبرعات المُقدمة لدعم الجهاد، والعمالة للأميركان. فيما أُشيع عن الظواهري ارتباطه بمكتب دائرة حركات التحرر في الحرس الثوري الإيراني.. ولَم تنتهِ المُلاسنات إلاّ باغتيال عزام (عام 1989)، وانضمام معظم أتباعه إلى تنظيم بن لادن الذي لم يكن له اسمٌ محدد.. إذ لم يظهر اسم “القاعدة” في أي بيان أو تصريح لزعيمها حتى (أكتوبر 2001)، عندما سأله مُراسل قناة الجزيرة “تيسير علوني”، عن أصل التسمية التي تُطلقها وسائل الإعلام على تنظيمه، وأوضح أنّ تسمية القاعدة ظهرت بمحض الصدفة مع تأسيس “أبو عُبيدة البانشيري” لمعسكرات تدريب المجاهدين في أفغانستان، وتدوين أسماء وبيانات المُنخرطين فيها، داخل سجلات، أطلقوا عليها “قاعدة” الجهاد.


وكانت خمس فصائل جهادية أبرزها تنظيم الجهاد -بزعامة أيمن الظواهري- أعلنت (عام 1998) تشكيل”الجبهة الإسلامية العالمية للجهاد ضداليهود والصليبيين” وبقي اسم القاعدة لصيقاً بها.


والقاسم المشترك بين عزَّام والظواهري وبن لادن والمقدسي تأثرهم بالتيار القُطبي المنسوب لـ”سيد قطب“، الغالب عليه تكفير الحكومات في البلدان الإسلامية، ووصف مُجتمعاتها بالجاهلية. والاعتماد على أحاديث الفتن والملاحم الموثقة في كُتب السُنة.


وإذا كان هذا التيار -مع بداية ظهوره- قد لقي رفضًا من عُقلاء الإخوان، عبّرت عنه رسالة ”دُعاة لا قُضاة“ المنسوبة لمُرشد الجماعة آنذاك”حسن الهضيبي“، إلاّ أنّ هذا الرفض توارى وانكمش بعد فترة وجيزة.. فتعزّز حضور المنهج القُطبي وارتفعت أصوات المتأثرين به بعد خروج القيادات الإخوانية من السجون، وتوزعها بين مدارس وجامعات دول الخليج، علاوة على انضمام إخوان العراق وسوريا إليهم، بسبب الإقصاء والتهميش، فضلًا عن سريان كُتب المراقب العام السابق للإخوان في سوريا ”سعيد حوى” في أوساطهم، واعتمادها في المناهج التربوية للإخوان مع أنّها -وبالذات كتابه “جُند الله ثقافة وأخلاقًا”- لا تختلف في مضامينها عن مؤلفات سيد قطب.


والمنتمون للإخوان، يتفقون مع التيارات السلفية الجهادية، في اعتبار أحاديث الفتن والملاحم وأشراط الساعة: خُطط سياسية، واستراتيجيات حربية. يسعون لتنفيذها على الواقع -ولو بصناعة العنف- للتهيئة لعودة الخلافة.. وصاروا على يقين تام منذُ بداية القرن بأنّ عصرنا الحالي هو عصر تحقيق الملاحم الكبرى.. لدرجة أخذوا يُفسرون فيها الأحداث السياسية الراهنة على أنّها تجليات لأحاديث تنبأ بها الرسول قبل أكثر من 1400 عام.


في خضم ثورات الربيع العربي (2 مايو 2011) قتلت المخابرات الأميركية ”أسامة بن لادن“ داخل منزله في مدينة “أبوت أباد” واعتبر بعض منظري السلفية الجهادية مقتله: مؤشرًا لظهور دولة الخلافة، كما تعاملوا مع الثورة السورية ضد نظام “بشار الأسد” على أنّها “إرهاصات ومقدمات بين يدي النبوءات التي ورد ذكرها في الأحاديث النبوية التي تتحدث عن أخبار مستقبلية”، وتبعًا لهذه القناعة حرصوا على نقلها من الطابع “السلمي” إلى الملاحم الجهادية المُتسمة بالعنف والذبح، والمصبوغة بالدماء، لتتوافق مع فهمهم لبعض الأحاديث المنسوبة للنبي.


ووفقاً لهذه القناعات ألّف ثالث مُنظري السلفية الجهادية -بعد سيد قطب والمقدسي- “عمر محمود” المعروف بـ”أبي قتادة” كتاب ”المقاربة لنازلة العصر قدرًا وشرعًا“ شرح فيه دوافع ومآلات الثورات العربية، وتوصّل إلى أنّ هذا الحراك الثوري هو “مقدمات حصول الوعود الإلهية بالنصر والتمكين”، كما استحضر الأحاديث التي تُضفي على بلاد الشام أهمية ومكانة خاصة في ظهور المهدي، وانتهى إلى الجزم بكل يقين بأنّ الواجب الآن “هو سقوط طاغوت سوريا، وهو أمر سيغير صورة العالم الإسلامي في منطقة بلاد الشام، أرض الوعود والحشر والنبوءات، في معركة سيطول أمدها، لأن الأمر فيها ليس أمر الطاغوت وجنده فقط، بل سيمتد إلى الزنادقة الروافض في العراق ولبنان وإيران..”.


النتيجة نفسها عن الدولة الإسلامية توصل إليها مشايخ كثيرون، أبرزهم “يوسف القرضاوي”، صاحب فتوى “جواز التفجيرات الانتحارية وسط المدنيين إذا كانت بإذن ومصلحة الجماعة”. وكذلك “عبدالمجيد الزنداني” ودليلهما حديث منسوبٌ للنبي رواه أحمد بن حَنْبَل يتحدث عن عودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوءة، بعد انتهاء الْمُلْك الجبري، المبني على أنقاض الْمُلْك العضوض، وهو نفس الحديث الذي سبقهما “جُهيمان” إلى تأويله بعد تلقيه عن “محمد ناصرالدين الألباني”، واستند عليه في رسالته حول “الخلافة”، قبل اعتصامه بالحرم.


ولن ينسى (المصريون) تعابير وجه القرضاوي وهو يخطب أول جمعة بعد تنحي الرئيس “مبارك” مبشرًا بنصر الله والفتح.


ولا (اليمنيّون) سينسون اقتحام الزنداني لساحة التغيير في صنعاء (مارس2011) بعد وصفه للثورات العربية بـ”براءة اختراع أحرج بها الشباب علماء المسلمين”. وخطابه الزاعق عن “دولة الخلافة الإسلامية التي اقترب موعدها”، أمام المئات من حاملي رشاشات “الكلاشنكوف” المطالبين برحيل “علي عبدالله صالح”، واستشهاده بتصريحات عن الأمن القومي الأمريكي وقيادات روسية، لم يذكرها أحدُ سواه.


كما عَدّ أساتذة في “جامعة الإيمان”، التابعة له، ثورات الربيع العربي، فاتحة لعودة الخلافة على منهاج النبوءة.


ولم يقولوا لنا حتى الآن: هل كانوا يقصدون بها “الدولة” التي أعلن قيامها العراقي “ابراهيم عوّاد” (أواخر يونيو 2014) باسم الدولة الإسلامية، ونَصّب نفسه خليفة للمُسلمين، باسم “أبو بكر البغدادي”.. مع أنّها عصفت بأحلام شباب الربيع العربي، وأدخلت بُلدانهم في دوامة من الفوضى والاقتتال..


أم أنّهم يعتبرون “شباب دولة الخلافة” أغراراً، كما صار يعتبرهم المشايخ المُروجون لحديث “الرايات السود”.


ودأب الشيخ “عبدالمجيد الزنداني” منذ ثمانينات القرن الماضي على الاستشهاد بحديث “الخلافة” السابق.. مُحددًا بداية الْمُلْك الجبري بالانقلابات العسكرية على الأنظمة الملكية، التي قادها ورعاها الرئيس الراحل”جمال عبدالناصر”.


ودولة “الخلافة” ظلت أهم هواجس النُخب المنتمية للحركات الإسلامية، وبالذات جماعة “الإخوان” وفِي سبيلها خاضوا جدالات وصراعات بدأت منذ سقوط الخلافة العثمانية رسميًّا على يد “مُصطفى كمال أتاتورك” (عام 1926)، وحتى اللحظة.


وثمّة مشايخ ووعاظ، على شاكلة الفلسطيني “بسام جرّار”، والمصري “عُمر عبدالكافي”، واليمني “حسن التهامي”، لا زالوا يروّجون أنّها ستعود مع “زوال” دولة اسرائيل عام (2024).. ويعكفون على استنطاق النصوص المُبهمة لتقول ما يحلمون به وكأنّها خُطط وأبحاث لايعتريها شكُ أو بُطلان.


وحُجتهم تحقق كل نبوءات حديث الرايات السود.. وآيات في سورة الإسراء يفسرونها وفقًا لأسرار الحروف وحساب الجُمَّل.


ومن العجائب تفسير سمعته من “محلل” داهية، عشية فوز “أردوغان” في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، قبل أيام. من أنَّ أردوغان قدّم الانتخابات عن موعدها لتنتهي فترته مع إعادة الخلافة الإسلامية الراشدة، وذكرني ذلك بتصريح لقيادي إخواني في الأردن نهاية (عام 1990) عن عودة الخلافة بـ”صدام حسين”.


وصَدام، صَدّق أُكذوبتهم فور إعلانهم أنَّه “السُفياني” قائد معركة “هرمجدون” المذكورة في “التوراة” وأحاديث “الفتن” لأنّه من نسل “خالد بن يزيد بن أبي سفيان”؛ فتحوّل إلى أيقونة دينية بين ليلة وضُحاها، بعد أن كان بعثياً كافراً، وفقاً لتصنيف القيادي الإخواني “فتحي يكن” للبعثيين في كتابه “حركات ومذاهب في ميزان الإسلام”.


واستحدث منتصف (يونيو 1993) ما أسماها بـ”حملة العودة إلى الإيمان”.. والتي يُعد “الخليفة أبو بكرالبغدادي!!” أحد مُخرجاتها التعليمية، فهو حاصل على الدكتوراه من”جامعة صدام للعلوم الإسلامية”.


وعندما كان الجيش الأميركي على أبواب بغداد كان الرئيس العراقي “صدام حسين” يُردد بيقين المُلهمين مقولته المُتنبئة بانتحار الجنود الأمريكيين على أسوارها، بناءً على ما ترسّخ في عقله وقلبه من أنه: سيهزم الروم.. ويبيد اليهود.. ويحرر القدس.!


وبمجرد انتهاء الأكذوبة -بهزيمته والقبض عليه- بحث قادة “الحركات!” الإسلامية عن مغفلٍ جديد يُلبسونه أوهامهم..


في عام (1928) أسس “حسن البنّا” تنظيم “الإخوان المسلمين” وجعل إعادة دولة “الخلافة” هدفه الرئيس.. وفي سبيلها سعى لتحطيم الحواجز التي كانت فارقة بين المذاهب والطرق الإسلامية.


لكنه دفع حياته ثمنًا لقرار “التنظيم الخاص” التابع لجماعته بتصفية “النقراشي باشا” رئيس وزراء مصر حينها بعد قراره “حل الجماعة” في (ديسمبر 1948)، على خلفية اتهامه لها بقتل سلفه.. وفِي التحقيقات اعترف القاتل “عبدالمجيد أحمد حسن” بعضويته في التنظيم الخاص للإخوان الذي يرأسه “عبدالرحمن السندي”، وأنّه قتل رئيس الوزراء بناءً على فتوى من الشيخ “سيد سابق”، ومن يومها صار القتل والتكفير تُهمة تلاحق الجماعة.


بعد أحداث (11سبتمبر2001)، أدركت السعودية أنّها أمام خطر وجودي مُتمثل في “الأخوان المسلمين”، ولم يعد مُجدياً استخدامهم.. فضلاً عن ترويضهم.. أو السيطرة عليهم.. وصار التخلص من ورطة “استيعابهم” هدفها القادم.. وهو ما عبّر عنه الأمير”نائف بن عبدالعزيز” في إجابته على أسئلة صحيفة “السياسة” الكويتية (عام 2002) بقوله: “إنّ مشكلاتنا وإفرازاتنا كلها -وسمِّها كما شئت- جاءت من الإخوان المسلمين”.


وتحدث بمرارة عن مُباركتهم لـ”صدام حسين” احتلاله للكويت.. بعد زيارتهم السعودية.. ومقابلتهم الملك فهد. واستذكر أسماء : محمد عبدالرحمن خليفة، راشد الغنوشي، حسن الترابي، عبدالمجيد الزنداني، ونجم الدين أربكان.


أمّا أنا فبعد قراءتي لكل هذه الأبحاث والأحاديث والنبوءات.. سألت نفسي: ما الذي سيجنيه العالم من عودة “خلافة” أنموذجها الأعلى دولة “طالبان” في أفغانستان.. أو حتى “الخلافة العثمانية” التي كانت تُحرم التعليم والطباعة…


ومُقدماتها كل هذا التخلف والعنف والدمار.. على أيدي المؤمنين بالعنف والرعب؟


وما الذي سيكسبه الإسلام من عودتها.. مُقارنة بما سيخسره العالم -لا سمح الله- إذا ما تحققت على أيديهم؟


ما أتعس الإسلام بهم إذا كانوا دُعاته..


وما أسعد “اليهود” بهم.. وبأمثالهم!


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى