يمن ما بعد الحرب: إعادة بناء الدولة أم إعادة بناء الأمة؟
لا يبدو هذا التساؤل ساذجا أو غامضا إلا لأولئك الجاهلين بحقائق ونتائج الحروب الأهلية. فبعد كل حرب أهلية أو غزو خارجي، أو كلاهما معا، تبرز دوما هذه الأسئلة إلى الواجهة في كل بلد خاض غمارها، وغالبا ما تتخلق تحت إبطها دعوات قومية غير ناضجة ردا على النعرات الطائفية والسلالية والمذهبية المقيتة. وها قد حان سؤال النخب السياسية اليمنية التي يتجرع شعبها مرارة هذه الحرب المدمرة وتداعياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الفتاكة؛ ما الذي يحتاجه اليمن بعد انتهائها وما الذي هي فاعلة من أجله؟ هل يحتاج اليمن إلى بناء الدولة أم بناء الأمة أم كليهما معا؟ ومن له الأولوية على الآخر؟
لا يحتاج الأمر منا إلى الكثير من التدليل والشرح على أهمية طرح هذه الحتميات السياسية الملحة في يمن دمرت الحرب الأهلية هذه بنيته الأساسية وضربت اقتصاده الوطني في الصميم، ومزقت نسيجه الاجتماعي إلى مستويات لم يعهدها اليمن أبدا من قبل، وبرزت وتخلّقت بفعلها قوى اجتماعية وسياسية “قديمة جديدة” وميليشيات مسلحة مدفوعٌ أجرها تحرث تربة اليمن طولا وعرضا لتزرع فيه الفرقة ونزعات الانفصال والتطرف والكراهية والمذهبية والسلالية والطائفية والمناطقية وغيرها من معاول الهدم والدمار.
هذا الحصاد المدمر للحرب الأهلية الأخيرة في اليمن التي اندلعت شرارتها في العام 2014 يقتضي امتلاك ناصية الحقيقة التاريخية والتسلح بأفضل المعارف وأدوات ومنهجيات الجدل لتجاوز هذه المحنة المهلكة وركامها الشاهق من الفظائع والمآسي.
مئة وأربع وأربعون حربا أهلية تقريبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية سحقت أمما ودولا كثيرة وقعت في شراكها، وقليلة تلك هي التي نجت واستطاعت أن تعيد بناء نفسها وأممها لتنعم بالسلام المستدام والاستقرار والازدهار. وكانت المقاربات والأدوات الصحيحة التي سارت على نهجها العديد من الدول الناجية من آثام الحروب الأهلية وسعيرها هي التي قررت مصير تلك البلدان في إما أن تبقى مستقرة نامية، أو تتكرر فيها الصراعات وتدوم.
اليمن اليوم هو دولة فاشلة بامتياز، ولا مجال لإخفاء ذلك. الضرر الأكبر والأخطر هو في إغماض أعيننا عن رؤية الحقائق كما هي عليه مهما كانت مريرة.. وهذه الحقيقة المرة لم تظهر دفعة واحدة، بل هي حصيلة تراكمات تاريخية ونزاع دائم بين أعضاء التحالف المهيمن لعقود من الزمن بل قل لقرون. الجدير بالذكر أنه منذ منتصف بداية الألفية الثانية والعديد من المنظمات ومراكز الأبحاث الدولية باتت تحذّر من خطر انهيار الدولة في اليمن، بل إن موضوع نزوع الدولة اليمنية نحو الفشل بدءا من عام 2007 يتصدر كبريات الصحف والمجلات الأميركية. والأبلغ من ذلك أنه في عام 2010 صدر تقرير عن وزارة التخطيط والتعاون الدولي يؤكد أن اليمن قد أخفق في تحقيق جميع الأهداف الثمانية للتنمية الألفية، بل إنه زاد ترديا مما جعل خبراء التنمية يصنفون اليمن واحدة من أفقر دول العالم ومن بين أكثرها نزوعا نحو الصراع والعنف المسلح. وكان باول كوليير، عالم الاقتصاد البريطاني، قد صنف اليمن عام 2005 ضمن المليار من البشر الذين يعيشون ظروف حياة القرن الرابع عشر تحت سقف القرن الحادي والعشرين.
فشلت الدولة اليمنية المعاصرة في توفير أهم الشروط السياسية العامة لمواطنيها في كافة المجالات: الأمن الجمعي والفردي لحماية مؤسساتها ومواطنيها داخل وخارج حدودها الوطنية، العدل والقضاء والمساواة، وخدمات الاتصالات والنقل والتعليم والصحة والمياه والصرف الصحي والكهرباء والسلع الضرورية للبقاء على قيد الحياة وتأمين فرص العمل والنمو الاقتصادي المستدام، وغيرها من الالتزامات الضرورية على الدولة مما أفقدها مصداقيتها وشرعيتها في عيون مواطنيها.
أبعاد فشل الدولة كما يوردها علماء الاقتصاد السياسي ثلاثة هي أولا النفوذ، وثانيا القدرة، وثالثا الشرعية. ونلخصها هنا اصطلاحا بـ”نقش”. وهي الأبعاد أو العوامل الثلاثة التي نقشت وما برحت تنقش بأحبارها الدامية عميقا في وجه الدولة اليمنية بالغ التشوه في وقتنا الحاضر. وفي السياق ذاته يمكن لنا أن نحدد فئتين رئيسيتين لفشل الدولة: الأولى وهي الحالة التي لا تفجر أي رغبات كامنة أو مصطنعة لدى فئات، اجتماعية أو سياسية، في قبول القواعد والقرارات والسياسات والإجراءات من قبل حكومة متوافق ومتفق عليها لإعادة بناء الدولة والتعافي الوطني الشامل. والحالة الثانية هي تلك الحالة التي يتغير فيها ترتيب أبنية الهرم السياسي المجتمعي وهيكله ومحتواه وقواعد الثبات فيه، سواء كان هذا التغيير ناجما عن نزعات ونعرات محلية صرف أو مدفوعة من الخارج.
الحالة الثانية هي التي يمكن أن نصفها بفشل الأمة. أما الحالة الأولى فهي الأقل تعقيدا نسبيا والتي تقتضي فيها التركيز على إجراءات بناء الدولة. الحالة اليمنية هنا مزيج من الحالتين. وما يدفعنا إلى التشاؤم هو أن العقول المظلمة لأعضاء التحالف المهيمن الذي هيمن على المشهد السياسي اليمني لعقود طويلة في شمال البلاد وجنوبها، وقاد إلى فشل الدولة هي اليوم ما زالت تمارس، بوعي تارة أو بدون وعي تارة أخرى، مهنة تحطيم الأمة اليمنية وتمزيق جسدها إلى أشلاء، وذلك من أجل الحفاظ على المصالح الشخصية المبتذلة لأعضائه، وتقديم هذه الأمة العريقة وليمة سهلة للمتربصين بها محليا وإقليميا.
نقصد ببناء الدولة هنا إنشاء وإعادة بناء وتعزيز الهياكل العامة للدولة ضمن مساحتها المعروفة بما يمكنها من تأمين السلع السياسية الحيوية العامة لجميع مواطنيها بحيث يتولى “نقش” متضافرا ومتناغما أداء عملية إعادة التركيب وفقا لقواعد ومعايير فعالة وناجعة متفق عليها بين جميع الأطراف الفاعلة في المجتمع اليمني، بما يؤهلها ويمكنها من اكتساب الشرعية في عيون مواطنيها.
الشرعية المستقرة للدولة، ولا نقول الثابتة، يمنحها مواطنوها لها برضاهم ترجمة للتراضي والتناغم بين الحاكمين والمحكومين، وهي في الغالب خاصية أصيلة لنظام الوصول المفتوح ولكن ليس حكرا عليه. وفي مناخ هذا التراضي والتناغم تتولد وتتسع وتترسخ المشتركات بين أبناء الوطن الواحد، وفي أحشائها يكتسب مفهوم الأمة الواحدة عناصره ومضامينه ويتجذّر. وهنا فإن عملية إعادة بناء الدولة خطوة أولية ضرورية في مسار عملية السلام تسبق عملية إعادة بناء الأمة اليمنية. وبالمقابل فإن إعادة بناء الأمة مسؤولية مجتمعية شاملة ترسخ كيان الدولة الجامعة التي تتولى مهمة القيام بذلك على مرجعيات العدل والمساواة وسيادة القانون.
المساواة والعدل، الحرية والشفافية والتنمية المستدامة هي محددات للاستقرار الاجتماعي وديمومة السلام. ومن الضروري من أجل إعادة بناء الدولة والأمة المستقرة والمزدهرة أن تعمل القيادات المجتمعية على استدعاء التاريخ الإيجابي المشترك واللغة والتراث والعادات وقيم التسامح وثقافة القبول بالآخر (واليمن ثريّ في ذلك) في ظل بيئة دولتية مساندة ومحفزة للتعايش والسلم الاجتماعي، دولة متصالحة مع مواطنيها بما يكفي للتسريع في لئم الجراح وتطبيب النسيج الاجتماعي وتعزيز وترسيخ الهوية الوطنية الواحدة.
الرؤية والإرادة والإدارة الوطنية الواحدة لمنظومة الحكم والمتوحدة مع تطلعات شعبها، تفانيها وكفاءتها ووفاؤها في تحقيق الأهداف المشتركة المتفق عليها بين القوى الاجتماعية الفاعلة هي شروط ضرورية مسبقة لنجاح إعادة بناء الدولة وبناء الأمة في اليمن.
وزير الصناعة والتجارة اليمني