التعليم وتفخيخ المستقبل
العبث بأشياء كثيرة قابل للجبر والإصلاح والتعويض، غير أن تفخيخ المستقبل وتدميره بالشكل الحاصل في بلادنا هو الكارثة الحقيقية التي يعمى أو يتعامى عنها كثيرون وعلى رأسهم دول وقطاعات ستكتوي بالنار مستقبلاً؛ نتيجة مواقفها الخاذلة اليوم.
تجريف ممنهج لمنظومة التعليم منذ أربع سنوات، تقريباً، أدت وستؤدي إلى كوارث أمنية واقتصادية واجتماعية تفوق البلاء الذي نعيشه اليوم بمراحل.
من مؤشرات ذلك التجريف الذي يعتبر تفخيخاً للمستقبل، تدمير كلي وجزئي لأكثر من 2600 مدرسة؛ ترك أكثر من ثلاثة ملايين طفل مقاعد الدراسة نسبة كبيرة منهم اتجهت إلى جبهات القتال والتسول والأعمال الخطرة الأخرى.
نزوح عشرات الآلاف من المعلمين والمعلمات بعضهم التحق بجبهات القتال لدوافع أيديولوجية أو دوافع اقتصادية بسبب إيقاف المرتبات التي دخلت عامها الثاني، وانهيار العملة المحلية، والازدياد في أسعار الأغذية والأدوية والوقود إلى أكثر من ضعف ما كانت عليه من قبل.
هدم التعليم: ذلك هو الخطر الأكبر المهدد لأمن واستقرار اليمن والجزيرة العربية والملاحة الدولية بشكل مباشر باعتباره تهديداً حقيقياً ومباشراً لما سيتبقى من هامش للسلم والتعايش الاجتماعي بعد الحرب المستعرة منذ مطلع 2014م تقريباً. قبل أن تتسع بشكل غير مسبوق بتدخل عسكري مباشر من التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات نهاية مارس 2015م.
هدم التعليم بهذا الشكل في ظل محدودية المعالجات والبدائل الكفيلة بسد الخلل وتكميل العجز وفق آليات ضامنة لتمكين الأطفال من نيل حقهم في التعليم الأساسي والثانوي هو التحدي الأكبر أمام أي خطط وبرامج للتعافي الذاتي للمجتمع المتضرر من الحرب عقب توقفها؛ وسيكون ذلك التحدي أحد أهم موانع أي استقرار للدولة على المدى القريب والمتوسط إذا ستظل اليمن فريسة سهلة لجماعات العنف والإرهاب والجريمة المنظمة لعقد من الزمن على أقل تقدير والتي ستقتات على مخلفات الهدم الممنهج للتعليم اليوم وعلى رأسها جيل غير متعلم وغير مؤهل ويمتلك الكثير من أفراده قدراً عالياً من الكراهية العنصرية والمناطقية من جهة وإتقان استخدام السلاح مع فقر وبطالة عالية من جهة ثانية.
مخاطر حالة الفشل واللا دولة تلك سوف تمس مصالح الدول والكيانات غير المبالية أو المقصرة في التصدي الحقيقي اليوم لهدم التعليم؛ ولن يكتوي اليمني بنارها وحيداً. ولن تستطيع أي قوة منع جميع مخاطرها المستقبلية بشكل كامل إذا لم تتم معالجتها وهي في مهدها.
حتى الكثير من المنتمين إلى النخب السياسية والثقافية والدينية حساسيتهم -للأسف- متدنية إزاء بعض القضايا الماسة بالمستقبل، فنجدهم يخوضون نقاشات ومعارك وصراعات فكرية. أيديولوجية سياسية، ذات صلة بمصالح أطراف قريبة أو بعيدة، بينما لا نجد لهم إسهامات مؤثرة في إيقاظ الحساسية المجتمعية وحساسية متخذ القرار بشكل يحصن المستقبل ويحميه بمنع انهيار التعليم أو الحد منه على الأقل.
يدرك كثيرون أن تعزيز وحماية الحق في التعليم وتمكين جميع الأطفال منه هو المخرج لأي بلد من آثار النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية والفقر والتخلف؛ وهو تأشيرة الدخول إلى مستقبل من الأمان والرفاه والعيش الكريم. وهو “الفانوس” السحري الذي نقل دولاً كثيرة كالصين وسنغافورة واليابان وغيرها من قعر الفقر والتخلف وآثار النزاعات المسلحة إلى مصاف الدول المنتجة، الغنية، المتقدمة، وكثير منها لا تملك أي موارد أو ثروات طبيعية تؤهلها إلى ربع النهوض الذي أنجزته نتيجة تركيزها على العقول.. الاستثمار في الإنسان.. التركيز على التعليم ثم التعليم ثم التعليم. ورغم إدراكهم ذاك، فإن منسوب مساهمة كثير منهم في التصدي لهدم التعليم متدنية جداً.
يتم رصد مبالغ ضخمة للمساعدات الطارئة -منها التعليم- لكن نجد تدنياً كبيراً في الاهتمام الحقيقي بهذا القطاع الأهم والحساس، حيث يتوجه أغلب الدعم إلى المساعدات الغذائية والمأوى، فالإنسان كمعدة جائعة وجسد عارٍ، بينما العقل والتعليم والمستقبل هو الأدنى في درجات الاهتمام تلك.