مقالات

الحلم بالدولة

 


عن رواج الحديث في #العلمانية هذه الأيام:


شاركت عام 2013 ببحث إقليمي ضم اليمن، فلسطين، مصر، تونس والمغرب، كان البحث بإشراف “كلية لندن للاقتصاد”، وهدف لتحليل أثر صراع منهجي العلمانية والدينية على النساء أثناء مرحلة التحولات السياسية، مثل المرحلة الانتقالية التي كانت تمر بها المنطقة ما بعد الربيع العربي.


قمت بالبحث، وكتب تقريره، وأسميته “الحلم بالدولة”. التقرير سلط الضوء على صراع اليمنيات في الحوار الوطني- وبالطبع جمع آراء النساء من المجتمع- على تشكيل الدولة ونظامها، ودفاعهن عن الدولة المدنية الحديثة، دولة المواطنة، كما وصفها قبلاً شباب وشابات ثورة فبراير، المشاركون والمشاركات في الحوار، ونساء المجتمع، ولهذا تحاشيت في البحث التطرق لمفهوم الدولة العلمانية لأن أياً من القوى الجديدة قالت بذلك. وهناك سبب آخر هو تجنب الحساسية السياسية في الوقت الذي تتحاور فيه القوى التقليدية والجديدة (متمثلة بالنساء والشباب)، واحتراما لما يؤسسونه من أرضية للعملية السياسية أو السلمية.


في جلسة التقييم للبحوث التي حضرها خمسة خبراء وخبيرات من معاهد أبحاث وجامعات في بريطانيا وامريكا وأوروبا، أتذكر أن إحدى البروفوسورات من إحدى الجامعات الامريكية قالت: آخر نقاش خضناه عن العلمانية في امريكا كان قبل مئتي سنة على الأقل، وفي أوروبا كان أبعد من ذلك بالتأكيد! وأضافت، حتى إننا لم نعد نتذكر حروف الكلمة.


خلاصة القول، إن المقّيمين لفتوا الانتباه إلى خلاصة الفكر السياسي وهو ثنائية “الدولة” و”المجتمع”، فإما أن تكون “الدولة” وإما “شبه الدولة”، فالادارة السياسية التي يشارك فيها المجتمع بجميع فئاته على قدم المساواة، وتحمي حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية، وتحقق تطلعاتهم في حرية التعبير والتفكير، وتسعى لاستفادتهم من التقدم العلمي والانتاج بشتى مناحيه، وتسعى لاندماج المجتمع في الأسرة الوطنية والاقليمية والدولية- كما رأينا منتخب آيسلندا متألقا في المونديال الأخير- فهذه هي الدولة، وما دونها شبه الدولة أو ما قبل الدولة.


ماركس، عرّف العلمانية بـ”فصل الدولة عن الدين”، لا “فصل الدين عن الدولة”، فمعركتنا في الحياة الدنيا- كما يختصرها لينين- هي الدولة، أما الدين فمعركة الحياة الآخرة. وبالنسبة لانجلز فإن تمكين المجتمع وتحقيق المساواة بين طبقاته وفئاته و”الحد من سلطات الدول ونخبها” سيجعل “الدولة مكانها المتحف”! فالأساس هو المجتمع. وبالتالي إذا فصلت الدولة عن الدين، فما المنهج أو الفكر الذي سيملأ الفراغ؟! مبدئياً، لقد ملأته مناهج متنوعة منها- في أحسن الأحوال- حقوق الانسان ومبادئ الحكم الرشيد، واليوم نسعى لأن يملأه منهج تشاركية المجتمع.


يعلمنا تاريخ تأسيس الدول في العصر الحديث، أن الدساتير التي تتبنى منهج “مركزية الدولة” دون منهج “تشاركية المجتمع”، وإن كانت دساتيرها تنص على العلمانية، هي دول غير متقدمة باختصار! بعضها يعاني من مشاكل الاستقرار، الفقر، النهضة، الخ… أما الدساتير التي تتبنى منهج الدين في الدولة، فهذه يطلق عليها “أشباه الدول”، وعلى المستوى النظري يطلق عليها الخطاب السياسي الحديث “كيانات ذات نهج ارهابي”.


مسودة الدستور اليمني التي صيغت بناءً على مخرجات الحوار الوطني، حضر فيها منهج تشاركية المجتمع ومصالحه إلى حد طيب، وإذا ما عُدل على أساس منهج تشاركية المجتمع، سيكون دستورا لدولة مستقرة، غير أن مبدأ الحد من سلطات الدولة ونخبها، وبالذات النخب، لم يظهر بقوة في مسودة الدستور، وبرأيي هذا هو الخطر الحقيقي الذي يهدد هوية الدولة من هوية اللادولة.


بالأخير، نال بحث اليمن استحسان لجنة التقييم، وكان البحث الوحيد الذي تم قبوله، ونشرت نبذة عنه في مجلة كلية لندن للاقتصاد، فمن عنوانه “الحلم بالدولة”، حلم النساء بالدولة، إلى اعتماده منهج تشاركية المجتمع الذي وفر الحوار الوطني مادة خصبة له، بالاضافة إلى آراء الناس، وتطلعات الحركة الوطنية منذ أربعينات القرن الماضي، نجح البحث في تقديم شكل الدولة التي يسعى لتأسيسها اليمنيون واليمنيات لا سواهم، وهو الشكل الذي إذا ما وجد، سيعمل كل اليمنيين على حمايته وتطويره، ما يضمن الاستقرار والتقدم، وهذا هو المطلوب في نهاية المطاف، بعيدا عن خطاب العلمانية الذي اعتبره من وجهة نظري خطاباً بائدا، وخطاباً من التاريخ، شأنه شأن الخطاب الديني السياسي.


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى