مقالات

سحر الدراما

 


في السوق، جلست إلى جوار سائق قلاب ينقل الحجارة، السائق معروف بأنه متحوث، وما يزال زعيمه صالح محتفظًا بمقدار القداسة ذاته الذي كان قبل ثورة 2011.


من الصعب أن تجادل سائقًا، فمن المعروف في المنطقة عن السائق سلاطة اللسان. يتعاملون مع الشتائم مثل شرب الماء.


ومؤخرًا، عزفت عن نقاش الآخرين فيما يتعلق بالحرب، أملًا بسلام يبدأ بالاتفاق مع الآخر وقبوله، لذا كانت هزة رأسي للسائق متواصلة، أشعر بألم في الرقبة سيزول من الاتحاد اللزج بين الفجس والفازلين.


وافقته على ما يقول وابتسمت له، كان مؤمنًا بأن الحديث مع كاتب القرية مهمًا للغاية، وكنت مؤمنًا بضرورة الإصغاء، لأني شاهدت فيلماً على القناة الفرنسية قال فيه البطل: الاستماع للآخرين متعتي قبل أن تكون مهنتي.


ثم إن ألسنة السائقين عادلة في مخاطبة الآخرين، لا يفرق السائق بين كاتب وحمّال، بين ابنه وأخيه، بين ثري وفقير، قد يتزلفك في أول المعرفة، وحين تتعمق الصحبة سيشتم بلا هوادة.


كنت أمامه متأدبًا إلى أبعد الحدود، أضحك وأحاول إضحاكه كي نزيل التوتر الذي تفاقم من بداية الحرب، جنيت ثمرة الأدب إذ قام السائق بشتم كل الأطراف حتى من يؤيدهم.. يبدو أنه فعل ذلك مجاملة لي ليكسب زبونًا قد يحتاج إلى “حملة بُلُكْ”.


المشهد الذي وجدته بعد ذلك: جلس السائق المؤتمري في السوق، مقابل رادار التقوية الخاص بشبكة نت محلية، لا يقوم بتحميل مقاطع إباحية تتوافق مع طبيعة لسانه المجبول على الشتائم، بل يقوم بتحميل الحلقة الجديدة للمسلسل التاريخي التركي قيامة ارطغرل. وقد حاول أن يخفي عني ذلك وكأنه يخشى أن أفهم بأن موقفه مزدوج، باعتبار أن الرئيس التركي أردوغان يدعم الشيخ حمود المخلافي، في تحالف لا يقل غرابة من تحالف الفجس والفازلين على الرقبة المتوجعة.


هناك توجه في الريف يتزايد كل يوم لمتابعة الدراما، خاصة هذه الأيام، كما لو أنهم يهربون من جحيم الواقع إلى عالم الشاشة الخيالي. في القرية يحسبوني شغوفًا بالدراما الأجنبية، خاصة وأني خريج إذاعة وتلفزيون، يسألونني عن مسلسل أجنبي مضحك أدلهم عليه، بينما أرشدهم إلى المسلسل السوري ضيعة ضائعة.


في الأسبوع الماضي تلقيت الكثير من الاتصالات، تبلغني عن الحلقة الجديدة لأرطغرل.


لا أطيق المسلسلات الطويلة، وعندما كانت هناك صحافة، كانت مقالات الكُتّاب مدبجة بتشبيه مكرر عن الملل: خطابات صالح مسلسل مكسيكي، فضلًا عن الارتباط لأجل غير مسمى حتى تحين الحلقة الأخيرة. 


أفهم سحر الدراما، وتركيا تمكنت من صناعة دراما تخدم توجه الدولة، بدءًا من وادي الذئاب وحتى قيامة ارطغرل، وساهمت القنوات الخليجية بدبلجة الكثير من المسلسلات. أبي قبل زهده كان يشاهد مسلسلًا، أبي محافظ من الدرجة الأولى، يقرأ القرآن ويدرسه في المدرسة، ذات يوم حضر رجل سيتحدث في السياسة والدين ليعظ أبناء البلاد، وحين دعوا أبي، لم يلب الدعوة، سألته عن السبب، فرد:


سيتحدث عن صراع الحق والشر، وأنا أشاهد مسلسل فريدة يتحدث عن هذا الصراع، وفريدة والله إنها تصلي.


وحين تضاعف الاكتئاب في أعماق أبي، اتجه إلى الزهد. والآن شده مسلسل بدوي، يتابعه بشغف، لدرجة أنه يغادر البيت وقد كتب تردد القناة البدوية في جيبه.


الدراما سحر، تأسر المشاهد مهما كان توجهه، لا علاقة لها بالمواقف، خاصة موقف سائق القلاب.


الدول تنتج دراما بما يخدم توجهها، ونحن نعيش الفقر المدقع للدراما، ولم نتطور من أيام الأبيض والأسود، زمن دحباش..


 

زر الذهاب إلى الأعلى