تعز… هل تستطيع؟ ومتى؟
مدينة مشبعة بالجدل، والحِدة، وابتكار الألم، “التنوع” فيها فخ، والصراع الدائر عليها غصة، حزمة من الفشل، حلقة من البكاء، أطلال ما كان لها أن تكون، لو لا هذه الفجاجة في رسم التصورات على رمال رمادية.
تعز تستطيع ولا تستطيع، بلغة الحسابات الرياضية، من الصعب أن تخرج هذه المدينة مما هي فيه، لأسباب وظروف معقدة كل التعقيد.
أما بلغة الوجع فإن “السيل قد بلغ الزبى” واستكثر الفرح علينا أن نراه.
تعز كالطفل المبتدئ على سواقة “العجلة”، كلما أراد تحريكها للأمام تندفع قدمه للخلف، لكن دون حركة، أما على أرض الواقع فإن عجلة المدينة تسير للخلف، على عكس عجلة ذلك الطفل.
من يعتقد أن مشكلة هذه المدينة، خلال الثلاث سنوات الماضية هي الحوثي، وبقايا قوات النظام السابق فهو مخطئ، صحيح أن “الحوثية” مثلت الجبهة أو العدو الأبشع في هذه المعركة، والطرف المُسرف في محاولة خلق أو إيجاد واقع أفلت من بين يديها؛ ولم يعد من السهل إعادة بنائه، لا بالقوة المفرطة، ولا بالقوة الناعمة.
هذه المعركة التي لا تستحقها تعز أبداً، تُعد مخاضاً عسيراً لوطن بأكمله، بل فاتورة يدفع ثمنها؛ هذا التنوع الذي تشبعت به هذه المدينة، التنوع ذاته الذي فشل في محطات عديدة، وتحديداً خلال السبع سنوات الأخيرة؛ في وضع النقاط على الحروف بسبب ارتباطات قبلية وإقليمية للأسف، برغم أنها كانت فرصة لإعادة التوازن، وبناء نموذج يحتذى به، لذا من يتابع سير الأحداث في هذه المدينة، سيجد أنها تتعرض للعقاب من كل الأطراف، والأحزاب، والمكونات، وحتى من الإقليم الذي يدير معركته هناك بصورة تبعث على الأسى.
اليوم يتم التعامل مع تعز من قبل الأشقاء لاعتبارات وحسابات عدة، وكذلك من قبل الشرعية المتمثلة بعبد ربه، ومن الجنوب؛ بحسابات رجعية، ونظرة مستقبلية غير عادلة.
تعز تعددت فيها الحسابات، ففي حين أنها خليط من شرعب، والمخلاف، وشمير ومناطق العدين وإب، والحجرية، وصبر، والمناطق الشرقية من جهة الحوبان، فإن كل هذا التنوع هو بحد ذاته عقاب يدركه البعض، ويتجاهله البعض الآخر، فيما الطرف الثالث يحاول طمسه أو تجاوزه إلى بقع أقل رمادية دون إيجاد المخارج.
في ظل هذه الحسابات المتناقضة والمتعددة، وعدم فهمها، فإن الشهداء والقتلى والدمار، كل ذلك سيبقى ملتصقاً بهذه المدينة، ما لم يتجانس هذا التنوع تماماً، كرد اعتبار للضحايا الذين سقطوا، ولتاريخ المدينة الزاخر بالأحداث والريادة.
تعز اليوم تعاقب كأيديولوجية دينية معتقة، وأيديولوجية حزبية يسارية جامدة، وتنوع بشري وديموجرافي مذهل، وموقع استراتيجي يهدد من خلال باب المندب وموانئ البحر العربي والأحمر؛ موانئ بعض دول الجوار بحسب بعض القراءات للمستقبل، إلى جانب الأطماع الإقليمية التي تظهر على الخارطة بين حين وآخر.
تعز تُعاقبْ ليس لأنها ضالعة بشكل مباشر في أحداث فبراير 2011م، تعز ستظل تعاقب حتى بعد انحسار الحوثي، لأن أدواراً ما تزال تنتظرها غير التي تمت وأدت إلى كل هذه المآسي، وأظن أن الفكرة وصلت ولا تحتاج لتفصيل أكثر.
عموماً.. إذا لم يخلق شكل الدولة القادم تجانساً فعلياً وملموساً، في الرؤى والطموحات، والقرارات؛ بين أبناء المدينة والبلد الواحد، فإننا سنبقى محل تجاذبات، وسيبقى الآخر شماعة نعلق عليه آمالنا وأخطاءنا.
إذاً، نستطيع القول بدون الجزم، بأن المشكلة ليست في (ذي يزن، ولا الإمامة، ولا صالح، ولا هادي) كل هؤلاء مجرد أدوات حضرت في مرحلة زمنية معينة، ساعدت على بقاء الحال بحسب التصورات والظروف المحيطة، المشكلة في إرادتنا المجتمعية المعقدة، التي عجزت عن بلورة أشخاص جيدين وواقع ناضج، وثقافة قانونية ملزمة للجميع، عجزت عن مناوءة جيران تلبستهم فوبياء الخوف من المجهول.
المشكلة في النخب السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية؛ التي تشتت بين هذا وذاك ولم تجعل الوطن وإنسانه نصب عينيها.
اليوم نحن نجني ثمرة صراعاتنا الداخلية التي لم تكن هدفها الوطن إلا شعارات، نجني ثمن ارتباطاتنا الواسعة مع الآخر بصورة لا تليق، اليوم نحن نجني ثمرة التشبع بالأفكار إلى درجة نسيان الأرض؛ التي ولدنا عليها وفيها، اليوم نحن نجني ثمن المشاريع التي توهمنا أنها من صلب تفكيرنا وحياتنا ومستقبلنا.
إن هذا الفراغ الذي ملأته جماعات لا علاقة لها بالحياة، هو نتاج توجهاتنا التي لم تلتق يوماً من أجل هذا الإنسان؛ الذي يموت جوعاً على مرأى ومسمع.
لقد انكشف عَتادنا وجهودنا، واتضح أنها كانت فخاخا لمستقبل مجهول، وما التباينات الشديدة اللهجة التي تنشر اليوم، إلا جزءًا من ذلك العتاد المُسطح، الذي بنينا عليه ثقافتنا وآمالنا.
اليوم انقسمنا إلى فسطاطات لا أول لها ولا آخر، ولا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بالتعايش الحقيقي، المبني على العدالة، والسيادة، والولاء للأرض والإنسان.
مقابل كل هذا العبث الدائر والتباينات، هناك إرادة وإجماع كبيرين على أن تخرج هذه المدينة مما هي فيه، ويبقى الأهم وهو: كيف؟ وبأي الطرق؟
فهل تستطيع تعز؟ ومتى؟