تصدُّع النفوذ الإيراني
موقفان عربيان لافتان في الأيام الماضية، يؤشران إلى تصدُّع النفوذ الإيراني، وبدء انحساره في المنطقة، بعد سنوات من الهيمنة المباشرة على القرار السيادي في العراق، ولبنان تحديداً، ومحاولة إدارة البلدين بمنطق العصائب والميليشيات والتبعية، ما أدى كثيراً إلى تخريب العملية السياسية في البلدين.
اللهجة العراقية تغيّرت، ولم تعد رهينة للقوى السياسية المحلية التابعة لإيران، فرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أكد رفض بلاده «المجازفة بمصير الشعب العراقي، إرضاءً لإيران» في شأن العقوبات الأميركية، فيما انتقد رئيس كتلة «المستقبل» اللبنانية سعد الحريري، استقبال الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله، وفداً حوثياً في بيروت الشهر الماضي، ووصفه بأنه «خروج عن مبدأ النأي بالنفس» الذي يعتبر أساساً رسمياً معلناً لعلاقة لبنان بالاستقطابات والمحاور العربية والإقليمية.
هذا لا يعني حكماً أن إيران تتخلى عن نهجها التدخلي، وتسويقه تارة بـ «المقاومة والممانعة»، وتارة أخرى بأوهام الدولة الإقليمية المركزية، التي تبحث عن أطراف حليفة، فالذهنية الإيرانية باتت في انكشاف واسع المدى والرؤية، ولا تنطلي على أحد محاولاتها إخفاء النزعات المذهبية في الانحيازات والدعم السياسي، فـ «حزب الله» الممول من طهران، شريك أساسي في انقلاب الحوثيين في اليمن، ويتلقى التوجيه والدعم العسكري والذخائر من الحرس الثوري الإيراني.
لكن المهم أن يتسع هذا الانكشاف أكثر فأكثر عربياً وإقليمياً، مع استمرار قطع الطريق على المشروع الإيراني، فطهران لا تبحث عن حلفاء وأنداد في المنطقة، بل وكلاء ينفذون أجندتها في لبنان والعراق وسوريا واليمن. وهي المسؤولة عن زج لبنان في الصراع الدموي في سوريا، عندما أرسل «حزب الله» مقاتليه إلى هذا البلد، ولا يزال يعطل إعلان تشكيل الحكومة اللبنانية، ويفرض شروطه على المعادلة الداخلية، مستقوياً بإيران وأموالها.
أما بغداد التي وضعت مسارات لاستقرار الإدارة السياسية، فقد باتت تشعر أن إيران تطالبها بسداد فواتير قديمة في هذه المرحلة، والتورط معها في المسارات الإقليمية والدولية، وآخرها العقوبات الأميركية، ثم مطالبتها بغض الطرف عن تهريب الدولار من العراق إليها، وجاء الأسوأ، قطع إمدادات نهر الكارون عن شط العرب، ما نتج عنه ارتفاع الملوحة في مياه البصرة.
في السياسة، مثلما في الحياة، لا تصحّ التحالفات بمنطق الوكالات وشروطها، فالمصالح تضغط وتفرض واقعاً جديداً قد يكون منقطعاً عن التاريخ تماماً.