مقالات

من صنعاء إلى الساحل.. يقدّم المقاتل روحه فماذا يقدم المنظّرون؟

 


لم أستطع الإمساك بالبندقية..


خرجت من صنعاء بعد استشهاد “الزعيم”، بيوم واحد.


خرجت غاضباً، محتاراً..


خرجت ضد “الضرورة” التي كانت تتبدى لي لتبحث لي عن “تعايش” جديد مع هذا الطاعون القبيح الذي كنت من أكثر الأصوات الداعية للتعايش معه منذ الحرب الأولى في 2004م.


لم أرتب شيئاً للخروج.. وكان قراري هو الاختفاء عن الأنظار.. ليس إلا.


سألت زميلاً كان مقرباً من “الحوثي”، أسأله عن توجهات الحركة التنظيمية، فقال لي: “يقول لك الصماد أنت بوجهه”، فقلت في نفسي: إذاً وجب الرحيل، هذا الوجه يتحدث باعتقاد أن وجهه صار شيئاً يُذكر.


فاتصلت بصديقي من خارج دائرة الإعلام والسياسة.. وقلت له “تعال معي ننزل عدن”.


لم أفكر في غير “عدن”.. ففي عدن لو حصل لي شيئ، سأفهم أن ذلك نتيجة طبيعية لدوشة الصراعات وهوشليتها، أما في “مأرب”، فسيكون الخيار عبثاً.. إن قبلوا بك سيقبلونه تكرماً دونما قضية بينك وبينهم، وإن رفضوك فسيعاقبونك على ما ترفض أنت توصيفهم لك به.


عدت إلى منزلي، وسقت سيارتي وتحرَّكت قبل ظهر الجمعة مع صديقي.


قال لي أول فرد من نقطة حوثية في “السواد”: “حقنا الإعلامي”، رأيت في وجهه الانكسار، فقلت في نفسي: هذا ليس حوثياً.


الحوثيون يومها كانوا منتشين مندفعين يملي الله لهم. وكان حوار صديقي مع النقاط عن سوق العمل وبطاقاته تكمل ما نقص.


 


واصلنا الطريق الاعتيادي، ولم أكن أعلم أين هي أول نقاط “الشرعية الإصلاحية” جنوباً.. لذا، حينما رأيت علم الجمهورية اليمنية وزياً عسكرياً، تفاجأت أني قد أصبحت خارج مناطق الحوثي.


قال لي: الأستاذ نبيل؟ قلت بسم الله إذاً، فقال: هاربين من الحوثي، وردَّ لي بطاقتي، وسمح لنا بمواصلة السير..


وبعد تلك النقطة لقيت نفسي أمام “جهنم” من المشاعر والانفعالات.. فقدت عقالها في أعماقي..


يا إلهي، كم هي المخاطر هوجاء.


وصلت عدن.. وتلقيت الاتصالات من مختلف الأخوة الأصدقاء من كانوا أعداء ومن كانوا محايدين، كل يعرض مساعدته.


تلقيت الدعوة من مكتب الدكتور أحمد عبيد بن دغر للوصول إلى “معاشيق”.. فاعتذرت، وقلت لهم: لي يومين في سفر ومن حين لآخر.. سأبحث عن غرفة في فندق لأنام وبعدها نتواصل.


تلقيت الاتصالات من إخواني في الإصلاح وفي المؤتمر.. وتعرفت على أصوات أخوة وأصدقاء مضى على تواصلنا ما لا يقل عن عشرين سنة.


تلقيت الدعوات للانتقال لأي بلد أو مكان.. وأكثرها كانت “السعودية”.


اتصل بي الصديق مصطفى نعمان، ثم كهلان أبو شوارب، وأحمد علي عبدالله صالح. سألني الأخير: نرتب لك الخروج؟


فقلت له: لماذا؟


قال: ترتاح، وبعدها نتكلم.. فقلت له: شكراً، إذاً، أعاني مشاعر غاضبة لن تستسلم للراحة.


قال لي “كهلان”: نرتب لك الانتقال إلى مسقط.. فما كان قد كان.. قلت له: شكراً جزيلاً، قد أحتاج لاحقاً المجيئ إلى مسقط، لكن الآن لا.


مسقط عندي لحظتها كانت مجرد مكان للحياد بين الجلاد والضحية.


 


وبعد أربعة أيام كنت قد غادرت مياهنا الإقليمية، وتنقلت من مكان لآخر، ثم انتهى بي الحال في أحد فنادق أبو ظبي.


وكلما سمعت طيراناً مدنياً فوق الفندق، شعرت بالفزع.. وقضيت أياماً أخرج من الكابوس القديم وأعاين الكابوس الجديد الذي أنا فيه.


التقيت قيادات المؤتمر.. والتقيت بأحمد علي في فندق فخم، وقلت له: قد معانا شرعية ثانية وعاد ما قد معنا دولة؟


وهو بأدبه المعروف ابتسم، وقال لي: هنا نتلقى العزاء أما أنا ساكن في بيتي.


وفهمت من النقاش معه أنه لم يقرر بعد أن سيكون له دور عام من عدمه.


قبل أن أحضر نقاشات القيادات المؤتمرية، وهو النقاش الذي زاد من عبء “الفندق” عليَّ، وقلت لهم: لاشيء يشبه ما قبل ديسمبر.. ولن يعود شيء يشبهه، إما تتحركون لتقليل المخاطر، وإلا لن يكون لكم مكان بل لن يكون لكم بلاد..


لاتنتظروا الظروف.. إن أردتم لأحفادكم أن يعودوا لبلادهم عودوا للجبهات.. جنوداً، لم يعد أحد مِنّا قيادة، قيادة ماذا أصلاً؟


 


كان “طارق محمد” قد خرج من صنعاء وتنقل داخل اليمن وخارجها ثم عاد بعدها إلى عدن.


كان يرسل لي صوراً من الفراغ الجديد الذي ينتظرنا.. هنا أول خيمة.. هنا وصل أول مقاتل من أبناء ديسمبر العظيمة.. هنا سيكون المصلى، هنا السكن.


وكلما رأيت صورة من ذلك الفراغ الذي يملأه الرجال فرداً فرداً، زادت عليَّ غرفة الفندق الفخمة ضيقاً وتعباً.. المسألة يا سادتي ليس بما فيها، ولكن بمشاعرنا المضطرمة. كنت كطائرة هبطت اضطرارياً في مكان فخم.. الفخامة لاتغير من سوء الاضطرار..


 


فعدت إلى عدن، وحملت حقيبتي إلى المعسكر.. ووجدت نفسي بين كل الوجوه التي كنت أعرفها.. التي تنقلنا معاً من جبهة لأخرى.. في صنعاء ومأرب والمخا وتعز… الوجوه الوطنية التي تمسّكت بالإرادة.. وحدها كانت تعرف أنه لم يعد معها شيء.. أن العالم كله ضدها، وليس الحوثي إلا واحداً من هذه الأضداد..


لقيت “الزهدمي”.. ولاتعرفون أنتم من هو الزهدمي..


ويا له من شهيد عملاق، مجهول ككل الرجال المؤمنين بقضيتهم، الذين لايحصلون على أقل مما يستحقون، وكأنهم يقولون لنا إنها الحياة الدنيا “قطعة من جهل”..


 


تنقلت بعدها بين الجبهات.. وقد صارت الحرب عندي شيئاً مختلفاً عمّا كانت عليه.. الحرب اليوم، لم تعد عندي سوى قصيدة من شعر، وحكاية من أدب، ورجولة وأخلاق.. فعل يقدم الرجال فيه أغلى ما يملكون، مبتسمين.. لامبالين، ثم يأتي كاتب مثلنا يعتقد أنه هو مصدر القيم والأخلاق، فيتحدث عن الحرب كأنه طبيب شعبي يعالج بالقرآن، يقدح في طبيب أعصاب وجراح عظام.


 


الحرب، طهر يا سادة.. الحرب رجولة.. الحرب تضحية وفداء، هي ليست سبباً للمواجع، بل هي المقاومة لصنَّاع المواجع. الحرب ليست مجرد معتوه يطلق الرصاص.. ليس كل رصاص حرباً..


 


نعم كل طرف يرى ما يؤمن به هو الحق والصواب، ولكن الحروب ليست بهذه البساطة، ليس كل من لا يرى الآخر غير مؤمن بما هو مؤمن به سيحاربه..


لايدخل الحرب إلا طرفان أحدهما أرعن وصلف ودعٍ..


ولكني في النهاية أدركت وأن يدي بالقلم هي أكثر قوة، وأن يدي والبندقية تضعفان بعض إن كانتا معاً.. في الميدان رجال محاربون.. شجعان.. أقوياء.. ليس لهم مطامع شخصية.. يحاربون بوعي الوطن والإنسان، ضد عصابة تحمل كل الرزايا صفت لها وبها ومنها وفيها كل البلايا.


وإذا علينا أن نقدم معهم شيئاً يستحق مرافقتهم في الميدان، هم يقدمون أرواحهم، وأقل ما يجب أن نقدمه نحن هو الحفر في صخر الوعي.. و”نعث” الدمار الكامن في هذا الوعي الفردي والجماعي.


 


يا حَمَلَة القلم.. يا أيها الكُتَّاب والمناقشون، تعالوا قليلاً على أنفسكم.. تعالوا نبني لنا وعياً باللحظة، وعياً نضحي عبره بنرجسيات الادعاءات وركام الفكر الذي لن أقول عليه فاسداً.. لكنه إنتاج مرحلة لم يعد منها شيء موجوداً.


 


أنا لا أدعو للتنكُّر للماضي.. فالماضي هو نحن..


لكن أدعو لإعادة تقييم ما يحتاجه الحاضر لكي يساند هذا المقاتل في دوره للتقليل من السوء الذي تعاني منه البلاد..


إننا على أعتاب مرحلة ما بعد الأيديولوجيا التي أنتجت الدول القطرية والأيديولوجيات الثورية.. وحددت لنا معاني وأفكاراً انتهى عهدها.


ليس لديَّ شيء جاهز أقدمه، إلا الدعوة للجرأة في النقاش ما وراء المقولات التي نعكُّ فيها ونلِتّ، نريد تمحيص ما هو فعلاً علاج لأمراضنا اليوم..


ما كان علاجاً لمرض الأمس.. قد، وأقول قد.. وليس قطعاً، قد لايكون هو ذاته علاج أمراض اليوم..


لانضحّي بأرواحنا.. فلنضحِ، إذاً، بكسلنا الذهني ودودة البقاء حول خزف القش.


 


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى