قصيدة البراءة هي الخيار الطري للشاعر الجديد، الشاعر الذي لا يرى خلفه عربات الهكسوس، ولا جنود بيزنطة، ولا سكارى رامبو، أو سأم بودلير. هذا الشاعر مهووس بالمغامرة، إذ لا تهمه قصيدة الخبرة، بقدر ما تهمه الحرية، وفي أنْ يجعل الكتابة لعبته في تحقيق الدهشة، وفي إنجاز ما يمكن تسميته بـ”الفضاء الجديد”.
هذه القصيدة كانت رهان الشاعر عامر الطيب في مجموعته الشعرية الجديدة “أقف وحيدا كشجرتين”، الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق/ بغداد 2018، إذ استغرقته لعبة البراءة، عبر أسلوبية الشعرنة الشخصية، وعبر تحفيز الاستعارة اللغوية لأن تكون مجسّه في استنطاق الجمالي، وطاقته في استدعاء الغائب والمحذوف.
فانطازيا الكتابة
تقانة الاستعادة في قصائد الطيب تقوم على ما يشبه “المونولوج” حيث تلعب الضمائر وظيفة التمركز حول “الأنا” وعبر محاولة في كتابة القصيدة/ الشهادة، شهادة تلك الـ”أنا” الشعرية وهي تغادر لعبة “توطين الحلم” إلى الواقع، حيث شهادتها في مراقبة العالم من خلال فرط الرغبة والتدفق، واستنطاق ما هو رمزي واستعاري.
عتبة العنونة “يقف وحيدا كشجرتين” بصيغتها الفعلية المضارعة توحي بدهشة فعل الوقوف في البؤرة المكانية، وباحتمال ما يوحيه ذلك الفعل، من عزلة، أو هروب، أو انفتاح على خيال داخلي، حيث يتدفق كشفرة للتوهج.
هذا العنوان التنكيري يحيل إلى حضورية الشاعر عبر الضمير الغائب “هو” في المتن، حيث يكون الرائي، والباحث، والمتسائل، والمدوّن، وهي وظائف أنطولوجية لفعل الوجود المتعالي واليومي، وحيث تكون الرؤيا هي المجسّ، وهي الواسطة والإفراغ، مثلما هي تعبير عن شعرية هاجس التحوّل، بوصفه معادلا استعاريا للحرية، ولثنائية الحضور في اللوحة/ اللغة، والغياب في الواقع.
يقول الطيب “أفرغ وأعود هشا/ بينما تغرق نساء كلود مونيه بخدرٍ لامتناه/ أحسب أنّ لديّ وهمي الذي أحافظ عليه،/ ناسيا أنها مأساة شائعة،/ أحرق أصابعي حيث لم ينم أحد في فراشي،/ وحيث لم أعد سوى ذلك الحزين النشط،/ أقصد الذي يحزن كلّ أيام الشهر/ دون أنْ يتقاضى راتبا”.
البناء المقطعي لقصائد عامر الطيب، يوحي بطبيعة ما يؤول إليه البناء الشعري، من خلال توظيف تقانات متعددة، تشكيلية وسينمائية، وأسطورية، وهي وسائط تقوم على شعرنة عزلة الشاعر أو غربته، من خلال استدعاء وظيفتها في السياق، أو دالتها في تبئير رؤيا الشاعر، تلك التي يشير من خلالها إلى شفرة حضوره، في بناء المتن الشعري، وإلى الاستدلال على تمثّلات لعبته الشعرية، وعبر ما تزدحم به قصائده من إشارات (مونيه، بيكاسو، فيلمي، يوسف، كلكامش) وعبر تقانات التحويل على مستوى الزمن، أو على توظيفها في التماهي مع حالة الشاعر وأقنعته، أو على مستوى تمثيلها السيميائي كعلامات “في حضرة الكتابة”، يقول الشاعر “أكتب أيضا لأتخلص من أصدقائي/ الكتب لا تشبه الكتب/ وذلك سر ديمومتها/ ما يكرر نفسه يموت”.
يحاول الشاعر أنْ ينزع عن العالم براءته، يدمجه في اللغة/ اللعبة، واللغة الرؤيا، وهذا التشكيل/ التركيب يمنحه طاقة استثنائية وحرّة للتجاوز، لأنّه سيكون كمن يُقشّر عن اللغة سطوحها، وليقترح له “حضارات” مفتوحة، وهي رمز إشاري للمقدّس، وللسحري، حيث يمارس فيها طقوس حريته، تلك التي تحيل على المغامرة، وعلى فنطازيا الكتابة، ولتبدو هذه الكتابة فيها وكأنها هلاوس مجنونة، أواغترابات صوفية عن الوجود والمعنى.
الشاهد والأثر
تبدو اللغة هي الفضاء والقاموس والعلامات، لتكون تحت هذا المُسمّى تورية كبرى للشاعر، وقماشةً لعريه، وخطابا لبوحه إلى القارئ، والذي لا يجد في القصيدة من موجهات سوى ما تستدعيه من شفرات وأوقات وعلامات، هي ذاتها مغامرة الشاعر في التجلي، وفي إشهار قاموسه الشخصي، القاموس الذي يصلح للإلحاد، وللاحتفاء أو للحداد، فهو جزء من لعبة فنطازيا الكتابة التي يستمرؤها الشاعر، والتي يكتب من خلالها نصه الشخصي المحشو بالنقائض والاعترافات والخسارات والأعطاب.
يقول الطيب “أردت أن أقول أشياء/ لكن الآلهة لم تعطنا/ وقتها بخلق العالم./ أردت أن أكتب/ عن الأشياء الخاصة عموما،/ لكنّ أمي ضيعت علي/ فرصة أن أكون امرأة”.
قد يكون المُعلن ملعونا، ومسبوغا بشفرة الاعتراف، لكن الشاعر يجد في عديد قصائد المجموعة لذة، وتعاليا في انتهاكه، ليس لكتابة النص المخفي، بل لتبئير المعنى كما يقترحه، وفي ما يكتبه، ولاستقصاء إحالاته المُضمرة، ولاستدعاء قارئ مسكون باللعنة لكي يشاركه في تفكيك شفرات ذلك المُعلَن، ولكي تكون الكتابة الشعرية أشبه بنوع من الترياق، ترياق في الحرية وفي التورية وفي الاستعارة وفي استحضار ما يستدعي اللذة، والاستيهام..
في قصيدة “في حضرة الحال” يبدو ضمير الـ”أنا” شاهد توكيد على ما يجري، فالكتابة شهادة، والشهادة إحالة، والإحالة تعود إلى اللغة، حيث تبدأ اللعبة المضادة في تعرية و”انتهاك المُعلن” من خلال الأسئلة “كيف حال العراق؟ كيف حال النساء؟ كيف حال الشاعر؟ كيف حال التفاحة؟ كيف حال الحرب؟ كيف حال القلق؟ كيف حال الشبح؟”
لعبة الأسئلة هي انكشافه على اليومي، إذ هي فضائحه، تعريته، مثلما هي لعبته في تقديم قراءة بصرية لما يجري، فالفضاء الشعري عبارة عن أرقام، وهي مقابل لأصواتٍ/ إغواءاتٍ تحفر في الزمن، وفي الجسد، ولتكون الكتابة هي الشاهد والأثر، وهي مساحة الرؤيا التي تستغرق الشاعر، حيث علامات الاغتراب، وعلامات الخيبة، وهواجس البحث عن الاكتمال بمواجهة المحو، وأحسب أن قصيدة “في حضرة سعاد حسني” هي الاستعارة الكبرى للحوار الأزلي بين الجسد والزمن، فكلاهما يعيش ثنائية الحضور والمحو، الخطيئة والطهر، وتتحول ثيمة الجسد إلى المحور، وصورة سعاد حسني تغيب ليحضر الأثر في الكتابة يقول “أنا سعاد حسني بالورم الأخير الذي شاهدتموه،/ لم أعد صغيرة على الحب،/ ولا في السِّن كما يصوّر لكم المونولوج المُقدّس،/ أجلس كأيّة عابرة،/ أيتها النساء لا تدافعن عن أيّ شيء،/ لن تحصلن على أية وظيفة أخرى/ غير نون النسوة”.