“طاعون عمواس” وانعكاسه على الوعي الإسلامي بالوباء.!

 


 


 


في أواخر “عام الرمادة” 17هـ. بمجاعته الشهيرة، توجه الخليفة “عمر بن الخطاب” إلى الشام، وبلغه وهو في طريقه إليها، أن وباء “طاعون عمواس” قد تفشى فيها، وفي جيوشه المعسكرة هناك بقيادة “أبي عبيدة بن الجراح”.


 


بطبيعة الحال شعر الخليفة بخطورة الموقف، وحجم المسئولية، ولا بد أنه وجّه باتخاذ بعض الإجراءات الوقائية التقليدية المعروفة حينها، قبل أن يعود بمن معه إلى المدينة.


لكنه.. وفي تصرف لافت سيكون له انعكاسات مستقبلية عميقة وواسعة على الوعي والفقه الإسلامي. كتب إلى “أبي عبيدة بن الجراح”، يطلب منه القدوم إليه، إلى المدينة، لأمرٍ حاول الإيحاء أنه بالغ الأهمية.!


 


قد يسبق إلى الذهن أن العاطفة غلبت على الخليفة فحاول إنقاذ حياة قائده الشجاع الذي فهم المقصد المشفق للخليفة، وبقى بين جنوده، ومات بينهم في موقف بطولي عظيم.!


 


بناءً على ذلك. فقد جازف الخليفة عمر بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص، بمن فيهم هو نفسه، من أجل إنقاذ حياة شخص واحد قد يجلب الوباء معه من الشام إلى المدينة.!


 


لا حاجة للقول إن هذه الفرضية تتنافى مبدئياً مع البديهيات المعروفة عن الشخصية العمرية القوية العقلانية المسئولة.. ومع ذلك يظل تصرف عمر بحاجة إلى تفسير مقبول:


– كيف كان عمر يتصور الأمر؟!


كخلفية لا بد منها. اكتشفت البشرية، بالملاحظة والخبرة المباشرة، ظاهرة انتقال بعض الأمراض بالعدوى منذ أقدم العصور، كما مارست بعض الإجراءات الوقائية منها، كعزل بعض المرضى، أو الابتعاد عنهم. عملية دفن الموتى بدأت كإجراء وقائي.


 


لاحقاً. بظهور المجتمعات الكبيرة والدول، مارست الأمم العزل الجماعي -الحجر الصحي على الأماكن الموبوءة- الشيء الذي عرفه اليونان والرومان والفراعنة.. فضلاً عن العرب في الجاهلية والإسلام.


 


لكن. لأن معرفة الأسباب الحقيقية للأوبئة “فيروسات وبكتيريا” وطرق انتشارها، لم تكن معروفة بعدُ، ظلت فكرة الشعوب عن العدوى ضبابية، وخبرتهم بالأوبئة وبالتالي بإجراءات الحجر الصحي. قاصرة.


 


بالنسبة للعرب، لا شك أن “النخب” كانت على معرفة بالعدوى وخبرة بالتعامل مع الأوبئة، وتدرك تماماً خطورة الدخول إلى أرض الوباء. بدليل امتناع عمر ومن معه عن دخول الشام.


كما كانت تدرك خطورة الخروج من أرض الوباء بدليل عدم قيام عمر باستدعاء جماعة من الشام إليه أو توجيه جيوشه هناك بالتحرك خارج أرض الوباء.


 


لكنهم لم يكونوا يدركون خطورة الخروج بنفس الدرجة.. كانوا على الأرجح يتصورون أن لا بأس بخروج بعض الأفراد الذين يبدون أصحاء.!


 


هكذا كان عمر يتصور الأمر، وهو عموماً تصور عدد كبير من الصحابة، وانعكس ذلك على الفقه الإسلامي الذي لا خلاف فيه حول منع الدخول إلى المناطق الموبوءة، لكن الخروج منها محل خلاف.


 


نعرف الآن أن خطورة الخروج من المناطق الموبوءة أكبر من خطورة دخولها. لأن الخروج خطر جماعي، ينقل الوباء إلى منطقة وجماعة جديدة، بينما الدخول مغامرة فردية.


 


غير أن هذه المعرفة لم تكن راسخة حينها، وإن كانت موجودة بقرينة الحديث النبوي: “إِذا سمعتم بـه “الطاعون” بأرضٍ؛ فلا تقدموا عليه، وإِذا وقع بأرضٍ، وأنتم بها؛ فلا تخرجوا فراراً منه”.


 


لكن، في المقابل، كانت هناك شرائح ونخب أخرى تجهل وتنكر وجود “العدوى” أصلاً، بقرينة الحديث النبوي الأكثر حظوة في كتب الصحاح: “لا عدوى ولا طيرة”.!


 


هذا التضارب والتناقض حول العدوى والوباء، كان حاصلاً أيضاً ربما بشكلٍ أكبر في العالم المسيحي الذي كان يعاني في تلك العصور من نفس الأوبئة، ويتعامل معها وفق رؤى وممارسات أقل ما يقال عنها أنها كارثية.


 


أياً كان الأمر. أوجه القصور في الرؤى والممارسات العربية التراثية، تجاه “الوباء”، مبررة، كونها جرت وفق الأرضية المعرفية المتاحة لعصرها، ولم تكن مختلفة كثيراً عن نظيراتها في الامبراطوريتين البيزنطية والفارسية.


 


المشكلة، فقط، أن تستمر تلك المعرفة التاريخية الزمنية إلى العصر الحديث، بعد اكتشاف عالم الكائنات الدقيقة، وقيام لويس باستور “1822 : 1895” و”روبرت كوخ “1843 : 1910” بالبرهنة علمياً وعملياً على “جرثومية المرض” وتأسيس “علم الجراثيم”.


 


 


 


 

Exit mobile version