مقالات

“كورونا” في عدن كالآذان في مالطة!

 


 


خالتي لحقتْ البارحة بابنها بعد ١٠ أيام من الكمد.. توفيتْ، رحمها الله، بعد عمر من الأحزان فقدتْ خلاله ٣ أولاد، لم تعد بعدهم حياتها كما كانت.


لا نملك رفاهية الحزن وتوديع أحبتنا كما يليق، يختلط البكاء بالهلع والحزن بالخوف، نحزن على من راح ونخاف على الباقين.


كان ابن خالتي قد توفي مطلع الشهر بما نعتقد أنا وسارة أنها كانت إصابة مكتملة الأركان بالكورونا، ولكن هذا المذهب عند باقي الأهل كفر بواح، يعتقد البقية بأنه مات بشيء آخر على قبيل المكرفس. أنا وسارة طبيبات والبقية مكابرون.. لم يتصل بنا أحد عندما مرض محمد، وعلمنا قبل وفاته فقط أنه كان يعاني طوال أيام إلى جانب الحمى، التي تردد بسببها على أكثر من طبيب في عدن وتم تشخيصه مرة بالملاريا ومرة بالشيكونغونيا وأخرى بالضنك والتيفوئيد، إنه كان يعاني أيضاً من ضيق في التنفس.


بدت هذه المعلومة جانبية وتافهة للجميع، وتم إلحاقها بحادثة حرق محلّه في حريق مول المنار بالممدارة، وأعتقد البعض أن الحمى سببها الحزن على عمله الذي انتهى في لمحة بصر، ولكنها أصابتني وأختي في مقتل، ونجزع بسببها على كل ما تلى وسيأتي.


طلبنا من الأهل عن طريق أمي أن يتوقفوا عن عمل عزاء، وأن يعزل المخالطون لابن خالتي المتوفى أنفسهم، ولكنهم استندوا على هلامية التعامل في محجر الأمل الذي نقل له وتوفي بعدها ببضع ساعات منتظراً الأطباء، لم يتتبّع أحد المخالطين، ولم يزودوهم بالمعلومات، ولم يقل لهم أحد أن سبب الوفاة هو اشتباه بالكورونا، فكان كلامنا الذي يأتي من على بعد قارتين كالأذان في مالطة! حتى المتعلمون في العائلة يرددون “قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا”. ونردد نحن “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”.


البارحة توفيتْ خالتي، التي نحبها وتحبنا، ظننتُ للوهلة الأولى أنها ماتت حزناً على ولدها، ثم قالوا لي بأثر رجعي أنها كانت تعاني الحمى وشخّصت بالملاريا، وقبل وفاتها بساعات بدأت تظهر عليها أعراض ضيق تنفس لم تمهلها ساعات حتى فاضت روحها الطيبة إلى بارئها.. بدوتُ كالمسعورة ومنزوعة الرحمة وأنا على طرف السماعة أصرخ بهستيريا على ابنة خالي الأخرى، استبدل العزاء والدموع بصرخات الخوف والتحذيرات، طلبت منهم أن لا يجتمعوا لوداعها، وأن يتفرقوا فوراً. ولكنهم غسلوها وابّنوها واجتمعوا لوداعها، ولعلهم يقيمون الآن مجلس العزاء.


كل هذه البروتوكولات الاجتماعية قوّة ضاربة لا يمكن هدمها دون وجود دولة وبالقوة، كل هذا التدين والتسليم بثنائية القضاء والقدر حاجب وحجاب يلغي العقل والتفكير ويجردك حتى من أبسط قواك الفطرية التي تحرّكك، الخوف، الخوف الذي علمونا في الطب أنه يضعك أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تقاتل أو أن تهرب، ولكنهم لم يقولوا لنا إنه سيدعك في عدن تكابر وتستسهل وتسلّم، وربما تتقبل فكرة أن تموت وأن تقف أمام طلقة الموت بصدر عارٍ.


مالم تتحرك كل القوى الاجتماعية والأمنية والسياسية، ومن ثم الطبية، لأجل توعية الناس بفكرة أن لا علاج للكورونا، إلا أن تمنعه من أن يأتي إليك ويختبر مناعتك.. كل قوى الشعب مجتمعة يجب أن تبذل كل ما تستطيع لأجل منع الناس من عمليات الانتحار الجماعية بكل هذه الأشكال، الاجتماعية والدينية، انزلوا للحارات وللمناطق الشعبية، قوافل طبية ولجان شعبية، وإلاّ سيستمر سيل الوفيات في التدفق بلا هوادة.


الرحمة على كل من توفى قريباً وبعيداً، والدعاء لا ينقطع بأن يلطف الله بهذا الشعب الطيب.


اللهم ارحم قومنا فإنهم لا يعلمون، ولا يريدون أن يعلموا.


 


*من صفحة الكاتبة على “فيسبوك”.


 

زر الذهاب إلى الأعلى