مقالات

رجال الدين في الدينين

 


 


في الماضي كان رجال الدين في المسيحية، ورجال الدين في الإسلام يلتقون معاً، عند تكفير المختلف عنهم في الرأي والسلوك، والوقوف ضد أي فكرة جديدة.. على سبيل المثال كان رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية يقفون وراء محاكمة عالم الفلك الإيطالي جاليلو جاليليه في منتصف العام 1633، ولكي ينقذ نفسه من حريقهم، غيَّر أقواله وكتب أمام رجال المحكمة: أنه قد تراجع عن قوله إن الأرض تدور حول الشمس.. وبعده جردت الكنيسة القس جيوردانو برونو، من ملابسه وعلقته منكساً في واحد من شوارع روما، ثم أحرقته لأنه قال بدوران الأرض حول الشمس، خلافاً للقول الذي تبنته هي اعتماداً على قولة الفيلسوف تاليس، ثم واجه كوبرنيكوس المصير نفسه.. وبالمثل حكم رجال الدين المسلمين بكفر الحلاج وأفتوا بضرورة إحراقه وذر رماده من أعلى منارة مسجد في بغداد، كما كفروا ابن عربي وابن رشد وغيرهما، بل لقد كفّر رجال المذاهب الأربعة الكبرى بعضهم بعضاً، وقال أنصار أبي حنيفة إن الشافعي زنديق، وقال الحنابلة إن أبا حنيفة لا يساوي سراويل قحبة!


 


تغير رجال الدين في المسيحية شيئاً فشيئاً، وبقي رجال الدين في الإسلام كما هم.. على سبيل المثال، كان الكاتب الفرنسي أندريه جيد، يقول ما لا يروق لرجال الدين الذين قرأوا مؤلفاته، لكنهم لم يؤذوه، وبعد سنة من وفاته اكتفت مؤسسة الفاتيكان ببيان في العام 1952 دعت فيه المؤمنين المسيحيين تجنب قراءة تآليفه.. وبعد نحو عشر سنوات صَعَد رجال الدين المسيحيون أعلى درجات سلم التغيير، فصاروا يقدمون العلم والعقل على الموروث الديني، ويكشفون عن ثقة نهائية بأي اختراع أو إبداع علمي، وبكل جديد في ميادين العلم والثقافة.. واليوم استقرت الكنيسة الكاثوليكية على مبدأ صاغه رجال الدين فيها، وهو أن الكنيسة لا يمكنها التورُّط في تبني أي سلوك أو موقف ديني يعارض العلم والفن وحركة التقدم، وأنه بوسع أي مسيحي أن يسقط أي عمل يسيء إلى المسيحية، وذلك عن طريق عدم التعاطي معه، وأن المتدين لو أراد إسقاط أي عمل فني مخزٍ أو خليع أو مسيء للدين، يكتفي بعدم مشاهدته!


 


في الجهة المقابلة ترى رجال الدين المسلمين كما هم.. خَلَفهم مثل سلفهم.. الموقف القديم هو الموقف السائد اليوم.. حتى إن رجلاً محسوباً في قائمة رجال السلفية الكبار هذه الأيام، قال بكفر الخليفة عمر بن الخطاب، ودليله على ذلك أن الخليفة عطَّل العمل بالسنة في عام الرمادة، وهو عام ساد فيه جفاف وجوع في جزيرة العرب، ورأى الخليفة أنه من المناسب عدم قطع يد رجل إذا سرق لإشباع بطنه، أو بطون الذين يعيلهم.


 


نقول: باستثناء رجال الدين المستنيرين، نرى مثل هذا السلفي وغيره.. ومثل هذا الفرد، مثل جماعة كبيرة تخصصها الأول إصدار فتاوى تكفير، وهي أيضاً جبهة نفاق معادية للعلم والثقافة ولكل جديد.. في الوقت الذين يدعون أنهم اكتشفوا أن القرآن العزيز حوى معظم الحقائق والنظريات العلمية التي توصل إليها الغرب قد كان القرآن سباقاً إلى ذكرها، بينما لا ترى أي جبهة معادية لسنن التقدم تخلو منهم!!


 


أشهر رجال الدين في هذا العصر، وهو الإمام الخميني، أفتى بحل دم أحمد سلمان رشدي، وخصص مكافأة قدرها مليون دولار لمن يقتله.. ورشدي هذا أديب هندي الأصل بريطاني الجنسية، كل ذنبه أنه كتب رواية آيات شيطانية، وهي واحدة من عشرات التآليف التي ألفها، على الرغم من أنه استقى حبكة رواية آيات شيطانية من القرآن وكتب الحديث والسير.. الذين كفروا نصر حامد أبو زيد المفكر والمجدد وداعية التحرر من التراث وسلطة النصوص، والتحرر من كل سلطة تعيق تقدم الانسان، هم رجال دين غفل كرهوا أراء صاحب عشرات التآليف الحية، فكفروه بسببها أولاً، ثم قالوا بوجوب التفريق بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس، لأنه كافر وهي مسلمة، فاضطر الزوجان المستضعفان إلى ترك مصر وجامعاتها، فرحبت بهما أعرق جامعات أوروبا بمملكة هولندا، المملكة الكافرة التي هربت إليها أفضل عقول المسلمين، كي تنجو من موت محتوم يقرره رجال الدين المسلمون خلال عشر دقايق!


 


أنت، إذا قلت اليوم إن في الإسلام رجالَ دينٍ مثلما كان في المسيحية رجال دين أيام زمان، برز لك جاهل يردد كلام مثقفين مستنيرين، مثل الإمام محمد عبده الذي ظل يؤكد أن الإسلام لا يعرف رجال دين، ولا يعترف لهم بأي سلطة على الحاكم والمحكوم، وإنما هم دعاة هداة ليس لهم إلا الوعظ بالتي هي أحسن، والقول بالكلمة الطيبة وبالحسنى.. ونحن نعتقد أن هذا كلام صحيح من حيث المبدأ، لكن في الواقع، أومن الناحية التاريخية، ومن الناحية العملية لدينا في الإسلام رجال دين، يعتبرون أنفسهم مفوضين من الله، وهم مختصون بمعرفة ما يراه.. وأكبر من ذلك لدينا مؤسسات دينية راسخة في الإسلام.. مؤسسة الفتوى.. مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ومؤسسة كذا، وهيئة كذا، وهي مكون رسمي في الهيكل العام للحكومات العربية- الإسلامية.


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى