لم يحط من قدر الثورة الفرنسية ضد الملك لويس السادس عشر والملكة ماري انطوانيت في نهاية القرن الثامن عشر شيء أكثر من حقيقة أن الثورة التي جمعت “الثائر” بـ”الثوري” لم تستطع أن تؤلف بين الاثنين لتنتج الشخصية الثورية القادرة على استلهام ضرورات التغيير وأسبابه بالمضامين الاجتماعية للجمهورية التي حلت محل الملكية المطلقة.
والمعروف أن هذه المضامين لم تكن قد تبلورت إلا لدى نخبة محدودة من المثقفين الثوريين بمضامين منتخبة من الفكر التنويري الذي حمله مفكرون أمثال جان جاك روسو وفولتير وبعض قادة الثورة والذين حملوا على الاستبداد، داعين إلى حكم الشعب. أما الثائرين القادمين من قاع المجتمع، حيث الفاقة والجوع والقهر والجهل، فقد كانوا لا يرون الثورة غير الانتقام ممن تسبب في بؤسهم ومعاناتهم.
والحقيقة هي أن هناك من الطبقات الغنية ممن كان قد التحق بالثورة ولكن بلباس “الثائرين” المنتقمين، لا بوعي “الثوري” الذي يرى الثورة مشروع نظام مختلف جذرياً عن النظام الاستبدادي.
بقي “الثائر” المعدم القادم من قاع المجتمع لا يدرك من ضرورات الثورة غير الانتقام من الطبقة الحاكمة والبارونات والأغنياء، أما “الثوري” الذي نادى بالثورة بمعايير الانتقال إلى النظام الدستوري الديمقراطي فقد كان عليه أن يواجه مخاطر جر الثورة إلى المنزلقات التي كانت النزعة الانتقامية للثائر قد شقت أخاديدها في المجتمع المحروم بطريقة لم تترك من خيار غير المقصلة والدم.
لم يتفق “الثوري”و”الثائر” على صياغة مسار ثوري ناضج للتغيير، وتوسعت مساحة الاختلاف بينهما، الأمر الذي انتكست معه الثورة بعد عقدين من الزمن.. ولم تستطع الدماء التي أريقت على المقصلة أن تنتج حاضناً مجتمعياً قوياً لها. ولم تتمكن من تكوين هذا الحاضن إلا بعد أن استطاع “الثوري” المستلهم لضرورات الثورة من خلال الوعي الناضج لأسبابها وأهدافها وتراجع دور “الثائر” المنتقم في تقرير مصيرها.
تجاربنا ليست بعيدة عن هذه الحقيقة.. دائماً ما كان صوت “الثائر” هو الأكثر صخباً وتأثيراً في مسار الأحداث، وانتهت الثورات إلى المأزق الذي ينزلق إليه الثائر بالثورة، أي بتسليمها لخصومها.
غير أن هذا “الثوري”، الذي لم ير الثورة غير استجابة تلقائية لوعيه المزحوم بالنظرية المسبوكة بأجمل العبارات، لا يجب هو الآخر أن تبرأ ساحاته لأنه كان عليه أن لا يتصرف كـ”جنتلمان”، ولا كعارض فكرة في سوق الأفكار، وإنما كموقف متكامل؛ فإلى جانب كونه ثائراً فإنه يمتلك الوعي بالمسار الذي ستفضي إليه الثورة..
وفي حين أن الثائر بطبيعة تكوينه الاجتماعي والسياسي والثقافي، أو لأسباب تتعلق بدوافع التحاقه بالثورة، لا يستطيع أن يكون ثورياً وسط كومة الأحداث المتلاحقة، أي أن يمتلك منهجاً واضحاً لمسار الثورة وأهدافها الاستراتيجية والمرحلية إلا بعد أن تعجنه الأحداث وتعيد صياغته، فإن الثوري يستطيع أن يكون الاثنين معاً ثائراً وثورياً فور اندلاع الثورة. ومن الخطأ أن يتخلى عن كونه ثائراً لأنه بذلك يفقد عنصر المبادرة في قيادة الجماهير حيث يسلم قيادتها للصوت الصاخب الذي يفتقر إلى الرؤيا الاستراتيجية ويصبح هو والثورة معاً ضحية هذا الانسحاب.
تاريخ الثورات هو صراع “الثائر” و”الثوري” في اللحظة التي يتعين فيها على الثورة أن تحسم خياراتها.. وكانت الطريقة التي حسم بها هذا الصراع سبباً في نجاح الثورات أو فشلها.