صعدت الحكومة التركية من انتقاداتها لدول عربية وغربية ووجهت سلسلة من الاتهامات لدول خليجية على اعتبار أنها تقف وراء استهدافها بحملة “دعاية سوداء” و”أخبار مفبركة” بهدف النيل من مصداقية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الوقت الذي يجد فيه نفسه أمام تحديات سياسية داخلية وإقليمية بعد سلسلة من القرارات التي اتخذها ووضعته أمام الكثير من التحديات.
وزج أردوغان ببلاده في أزمات اقتصادية وسياسية وعسكرية وتدخّل في عدد من الدول معتمدا على شعبية داخلية ودعاية وفّرتها منابر إعلامية وسياسية عربية، لكنه يبدو الآن عاجزا عن تبرير سلسلة من الأخطاء والترويج لأفكار مثيرة للرفض بعضها مستفز تاريخيا مثل إحياء الدولة العثمانية وتقمّص دور السلطان، والآخر يعبّر عن مشروع سياسي لتوظيف ورقة الإخوان المسلمين إقليميا.
ووجه مستشارون وإعلاميون مقربون سهام انتقاداتهم لدول إقليمية مثل السعودية والإمارات واتهموها بالترويج لدعاية سوداء ضد تركيا، لكن مشاكل الرئيس التركي تبدو أعمق من مجرد حملات إعلامية تنتقد سياساته.
وكان آخر الأوراق التي ستجلب عليه سخط العالم وتزيد من عزلة بلاده، قرار تحويل متحف آيا صوفيا، الذي هو بالأصل كنيسة، إلى مسجد، في تحد لنداءات كثيرة، وإذكاء لخطاب الكراهية الديني ضد تركيا التي لم ينس المسيحيون في أوروبا تاريخهم الاستعماري معها، وكيف وظفت الدين غطاء لتنفيذ مجازر بشعة تحت عنوان “الجهاد” و”الفتح”.
ومن شأن هذه الخطوة أن تقوّي الخطاب المتشدد، فهي قد تجلب على الجاليات المسلمة في الغرب متاعب كثيرة، لكنها بالتأكيد ستمثل خير هدية للمتطرفين في الشرق الأوسط من أنصار داعش والقاعدة وجماعة الإخوان المسلمين لإعادة الصراع مع الآخر إلى البعد الديني وما يتبعه من رواج للتكفير وفتاوى الجهاد والتفجيرات والاغتيالات.
ويقول مراقبون إن تركيا تضع نفسها الآن في موقع صعب، فقد قفزت على مفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي بناها أتاتورك، وعادت إلى الدولة الدينية العثمانية التي تستهين بالقيم والحقوق المعترف بها دوليا، متسائلين أيّ دعاية سوداء أقوى من هذه؟
وأشاروا إلى أن سياسات أردوغان كانت تهدف إلى العودة بتركيا إلى ما قبل الدولة الوطنية، وأن توظيف الدين في الصراعات السياسية الدولية هدف استراتيجي في ثقافة الرئيس التركي سواء تبرّأ من علاقته بالجماعات الإسلامية المتطرفة مثل الإخوان أو لم يتبرأ، مثلما فعل المتحدث باسمه إبراهيم قالن حين نفى، الجمعة، أن تكون بلاده قد بنت سياساتها الخارجية على أساس الفكر الإخواني و”العثمانية الجديدة”.
واعتبر قالن، في تصريحات لوكالة الأناضول، التوجه التركي إلى العثمانية والإخوانية، ادعاءات لا أصل لها ترمي إلى تشويه حقيقة السياسة الخارجية التركية، زاعما بعدم وجود أيّ وقائع ملموسة تثبت صحة هذه الادعاءات.
لكنّ تغيير وضع متحف آيا صوفيا إلى مسجد يجعل الدفاع عن أردوغان وعثمانيته الجديدة صعبا.
ويعكس تصريح المتحدث باسم أردوغان إحساسا بالعجز والعزلة في وقت كان فيه الرئيس التركي يعتقد أن “العثمانية الجديدة” ستكون طريقه إلى المجد الشخصي، لكن الذي حصل أن “الحلم العثماني” جلب عليه متاعب كثيرة، خاصة أنه حرك لدى الشعوب العربية والإسلامية أوجاع الماضي، ودفعها إلى تذكر تفاصيل كثيرة عن الاستعمار العثماني والمجازر والجباية والاستعلاء العرقي.
وشنّت منابر إعلامية تركية مثل “تي آر تي وورلد” الناطقة بالإنجليزية هجوما على المؤسسات الإعلامية العربية التي تتابع تطوّرات المشهد السياسي التركي، معتبرة إياها “رأس حربة” في مواجهة المشروع الإقليمي التركي، واتهمت مؤسسة “العرب” من بين من اتهمت “بفبركة” أخبار التدخل التركي الإقليمي.
وفشل الرئيس التركي في اتهام الإعلام العربي بالدعاية السوداء، فطموحاته الشخصية أحيت لدى شعوب المنطقة الملفات العثمانية السوداء، وكان دور الإعلام العربي هو تقديمها للناس بتفاصيل أكثر وربط الأحلام الاستعمارية الجديدة بالماضي، الأمر الذي مكنه من رفع درجة الوعي بخطر الأطماع التركية.
وتكشف تصريحات قالن عن وصول قدرة الدعاية التركية إلى حدود إمكانياتها، بعد أن نجحت في قضايا لكنها فشلت في أخرى.
ولم يختلق الإعلام العربي قصة “العثمانية الجديدة”، فالرئيس التركي لا يخفي ذلك وسعى إلى الترويج لها في تصريحات وخطط كثيرة من خلال امتداح الماضي العثماني في البلقان وسوريا والمغرب العربي. كما امتدح السلاطين العثمانيين والقراصنة ولم يخف رغبته في تخليد أحداث عثمانية رغم أنها تستفز شعوب المنطقة من عرب وأرمن ومسيحيين، وآخرها تحويل متحف آيا صوفيا الذي كان كنيسة إلى مسجد وفق قرار سياسي أكثر منه قضائيا.
ورغم الاتهامات التي يوجهها الإعلام التركي عن “فبركة” متعمدة للأخبار المتعلقة بليبيا وسوريا والصومال والسودان واليمن، إلا أنه نفسه حافل بالأخبار التي تروي بالتفصيل ملامح التدخل التركي في المنطقة ومشاريع مدّ النفوذ وتطويق دول عربية رئيسية في الجزيرة وفي شمال أفريقيا بحزام من التواجد العسكري والمشاكل.
وعبّر مراقبون سياسيون ومتخصصون في تاريخ الإسلام السياسي، عن استغرابهم من تبرّؤ المتحدث باسم الرئاسة التركية من أيّ علاقة لبلاده بالإخوان المسلمين، متسائلين عمّا إذا كان بمقدور قالن أن يجد أيّ ذريعة لاحتضان تركيا لقيادات إخوانية من مختلف البلدان العربية، حيث فتحت لهم القنوات والمنابر ليهاجموا بلدانهم ويمتدحوا “السلطان” أردوغان وأفضاله عليهم، ويعبروا عن رغبتهم في توطيد العلاقة معه كقائد ملهم.
واستفادت أنقرة من شبكات الإخوان المسلمين لتبرير تدخلها المباشر في سوريا وليبيا وغير المباشر في تونس واليمن من خلال حملات إعلامية إخوانية لتبييض الأجندة التركية وتضخيم “دعم” أنقرة، في مقابل الهجوم على خصومها وشيطنتهم وقطع الطريق أمام الاستثمار القادم من غير طريق تركيا وقطر.
وفشل قالن في التبرّؤ بشكل كامل من الإخوان، عندما عاد ليدافع عنهم بقوله “في الآونة الأخيرة، باتت الخطابات الليبرالية الدولية تستخدم تعبير الحركات الإسلامية والأحزاب الإسلامية والإخوان المسلمين، كأداة للتخويف”.
وتعكس تصريحات قالن، التي تحمّل الآخرين مسؤولية الفشل، اعترافا بعجز الدعاية التركية عن الاختراق بسبب زيادة الوعي بالخطر التركي في المنطقة العربية من جهة، ومن جهة ثانية بسبب تراكم الأزمات وأخطاء حكومة الرئيس التركي التي بات الدفاع عنها أمرا صعبا.
ورغم الإجراءات التعسّفية ضد الصحافيين والتضييق على مواقع التواصل الاجتماعي، فشلت الدعاية التي تديرها حكومة أردوغان في تقليص الانتقادات الموجهة للأداء الحكومي اقتصاديا واجتماعيا.
وزاد حجم الانتقاد الإعلامي للسياسة التركية بسبب السلوك العدائي للأتراك ضد أوروبا، وخاصة ارتفاع منسوب الأطماع التركية في المتوسط والخلاف المتفجر مع قبرص واليونان، فضلا عن العداء الذي يتسع بين العرب ضد التمدد التركي الذي يأخذ أشكالا مختلفة.
وتوقّع مراقبون أن تُقبِل تركيا على موجة أوسع من العداء لها طالما استمرت في أجندة التوسع العسكري ومحاولة استنساخ الماضي العثماني في احتلال جديد.