مقالات

أيا صوفيا.. وهوس أردوغان بالخلافة.!

كان بإمكان الغرب “المسيحي” أن يحتفل بانتصاره على دولة الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. بطريقة دينية، وتنصير مظاهر مدينة اسطنبول، وإعادة آيا صوفيا مجدداً إلى كنيسة.

لكنه لم يفعل. ليس لأنه كان قد أصبح بلا نزوات دينية ولا نزعات تقليدية، ولا أحقاد تاريخية، بل لأنه كان قد شب عن هذه النزوات والنزعات والأحقاد إلى غير رجعة.

صحيح. أعلنت الجارة اليونانية حينها “استعادة القسطنطينية وكنيسة آيا صوفيا”، لكن سرعان ما هب العقلاء والمثقفون الغرب بوجه هذا التوجه، دفاعاً عن الواقع والتراث الإسلامي للمدينة.

قال المؤرخ والفيلسوف العلامة أرنولد تُوينبي حينها: “إن المدينة اليوم معظم سكانها مسلمون واستعادة القسطنطينية ستحدث مأساة للمسلمين شبيهة بتلك التي حدثت في أسبانيا عند استرداد الاندلس، وقيام محاكم التفتيش المؤسفة”.

كان الغرب قد تغير. الحداثة التي جعلته متفوقاً على العالم الإسلامي في مختلف المجالات. جعلته لا يفكر حتى بتنصير القدس. المدينة المقدسة التي قاتل من أجلها طوال قرون خلال الحروب الصليبية.

الحداثة قطيعة مع ثقافة القرون الوسطى وهوياتها وقضاياها وصراعاتها، وعلى أساسها أطاح القائد التركي مصطفى كمال اتاتورك بالنظام العثماني المتهالك، مؤسسا لتركيا دولتها العصرية العلمانية الحديثة.

وفق هذه القيم الجديدة أصدر أتاتورك قانونا يقضي بإعدام أي جندي تركي يسيء معاملة غير المسلمين، كما قال:

“مسجد آية صوفيا لا يكون بعد اليوم مسجداً يثير المسيحيين الارثذوكس، ولا كنيسة تثير المسلمين، وإنما متحفاً للجميع، ومن أراد أن يصلي فليصل سواء كان مسلما أو مسيحيا”.

تكمن أهمية كنيسة أو مسجد أو متحف “آيا صوفيا”. بجانب قيمتها الفنية والمعمارية. في رمزيتها العالية -مع مدينة اسطنبول( تاريخيا: بيزنطة. القسطنطنية. الاستانة)- على تحولات تاريخية عالمية ذات أبعاد حضارية عميقة واسعة المدى.. لا تخلو من المفارقات:

سقوط المدينة عام 1453م بيد السلطان العثماني سليم الأول الذي حول هذه الكنيسة إلى مسجد. كان حدثاً مفصليا في تاريخ الشرق والغرب. لكنه لم يكن نصرا للإسلام والمسلمين وإن بدا كذلك بالمعايير الدينية السياسية البحتة.

على العكس، وبالمعايير الحضارية. كان لحظة تاريخية فارقة ترتب عنها تدشين عصر النهضة في الغرب ودخول الشرق الإسلامي أسوأ مراحل الجمود والانحطاط في ظل الحكم العثماني.

تحويل هذا المسجد إلى متحف عام 1935م، كان الإشارة الرمزية الأكثر تعبيرا عن نهاية هذا الانحطاط في كثير من بلدان الشرق، وبداية عصر النهظة الحقيقية لتركيا على أنقاض النظام العثماني العجوز.

أما تحويل هذا المتحف اليوم إلى مسجد مجدداً.. فهو الإشارة الأكثر فجاجة لردة حضارية، كنكسة في المسيرة الحداثية لتركيا العلمانية، وعودة ساخرة للتاريخ العثماني.

منذ البدء، حتى قبل وصوله إلى السلطة. لم يخفِ أردوغان هذه النزعة وهذا التوجه، وقد قبض عليه عام 1998 بتهمة التحريض على الكراهية الدينية. وترديده شعارات متطرفة مثل:

مساجدنا ثكناتنا

قبابنا خوذاتنا

مآذننا حرابنا

والمصلون جنودنا

هذا الجيش المقدس يحرس ديننا

لا خوف على الغرب من هذه الثكنات والخوذات والحراب والجنود والجيش المقدس الذي يحرس الدين في زمن لم تعد فيه المعارك والصراعات دينية.

تركيا وحدها وربما بلدان عربية وإسلامية قليلة مخترقة من قبل تيارات الإسلام السياسي هي من ستدفع ثمن هذا الأفلاس والردة المؤسفة للنظام التركي.

زر الذهاب إلى الأعلى