كان صعبا أن تكتب عن الرئيس علي عبدالله صالح أثناء حكمه، ومن اللازم ألا يكون صعبا أن تكتب عنه بعد رحيله. وأحرى بخصومه اليوم، ألا يتشبثوا بيقينياتهم الجاهزة عن الرجل، إذ ثمة أمور غابت عنهم مثلما غابت أيضا عنه أمور أخرى.
أزعم أنني قضيت وقتا طويلا في محاولة تحليل شخصية علي عبدالله صالح رحمه الله، وسكبت الخلاصة في كتاب “الخيوط المنسية” عام ٢٠٠٨، ولم أتفاجأ مذ ذلك الحين بأية خطوة أقدم عليها صالح.
واليوم بمناسبة مرور ٤٢ عاما على توليه السلطة في شمال اليمن، أنتزع هذه الفقرات من كتاب الخيوط المنسية، (الذي تنبأت فيه بثورة ٢٠١١). والفقرات المقتبسة تسلط الضوء على جوانب إدارية ونفسية من شخصيته التي ستظل لعقود قادمة، مثار جدل كبير.
علينا أن نتمعن تجربة الرجل الذي أهدر الكثير من الفرص. علينا أن ندرس علي عبدالله صالح كحالة يمنية بمعزل عن انطباعاتنا السابقة عنه. هناك جوانب عديدة افتقدناها بعد تنحيه عن السلطة، وهنالك تطورات مؤسفة أعقبت ذلك التنحي وأسلمت الرجل لمصير مؤسف ومشرف في ذات الوقت. وألخص القصة بكلمة واحدة: “المكابرة” التي دفعها إليه خصومه بعد إلمام طويل بنقاط ضعفه كيمني أدمن السير على حواف الضياح.
“لقد امتلك الرئيس علي عبدالله صالح، طيلة ثلاثة عقود من الحكم، كثيراً من الخبرة. ويشهد له الكثيرون أنه مبدع في مجال السياسة الخارجية. كما أصبح صالح بسبب هذه الفترة الكبيرة في الحكم موسوعة يمنية هائلة تحيط بطبيعة الإنسان والمكان. كما أنه وطيلة ثلاثين عاماً أصدر الآلاف من قرارات التعيين وأدى المئات من الأشخاص اليمين الدستورية أمام الرئيس.
عاصر الناس جميعهم؛ الكفء منهم والضعيف، النزيه والفاسد. جابَهَ التحديات والأزمات أشكالاً وألواناً. ذاق حلاوة النجاح مرات عديدة وتجرع مرارة الإخفاق مرات عديدة كذلك. شاهد اليمن وهي تكبر أمامه، أجيالاً ومدناً وأحلاماً وتحديات، سمع أجمل القصائد، أطرف الزوامل وأندر الحكايات، تعرف على جوانب رائعة من نبوغ هذا الشعب. استمع إلى الكثير من النصائح والدسائس وعبارات الحب ومعلقات النفاق. عاصر الكثير من الرؤساء في العالم. زار العديد من عواصم العالم. شارك في الكثير من القمم العربية والإسلامية والعالمية، تقدم بالكثير من المبادرات. حصد إعجاباً كبيراً وصدم بخذلان كبير. تعرّف على الكثير من الشخصيات العربية والعالمية من كتّاب ومثقفين وعلماء وساسة ورجال أعمال. اطلع على كمّ هائل من الأسرار وعايش بشكل يومي كتابات وتحليلات له أو عليه. إلى آخر ما هنالك من المعطيات الكثيفة التي تجعل من علي عبدالله صالح مستودعاً كبيراً للخبرة والحنكة وارشيفاً هائلاً للأحداث والمتغيرات التي كان طرفاً فاعلاً فيها.
عنفوان الشعب على حساب عنفوان الحكم
يقول أحمد الأسودي في كتابه “الحاكم”: “إن مهمة كل حاكم تتمثل في تمكين المحكومين من حقوقهم، في ذات الوقت الذي ينبغي فيه على المحكومين تمكين الحاكم من حقه الشخصي، الذي هو الحكم”. لكن ما يحدث الآن في اليمن هو وضع مختل؛ يريد المحكومون انتزاع حقوقهم عن طريق سلب الحاكم حقه الشخصي وابتزازه والتلويح المستمر بالتشكيك في شرعيته!
بالتالي أرى أن هذا الوضع الذي نعيشه في اليمن ليس وضعاً سوياً، واليمنيون بهذه الطريقة يجعلون من الديمقراطية والحرية وسيلة للهدم، ويبحرون بها ضد تيار النواميس العامة التي تخضع لها الأداءات الصائبة في الكون.
للرئيس علي عبدالله صالح تحدياته التي لا يستطيع الإفصاح عنها بحكم أعباء المنصب الذي يشغله. ومنها ما تحدثنا عنه في الفصل السابق. كما –باعتقادي- أن له قناعاته التي لا يريد الإفصاح عن بعضها؛ فهو -حسب تقديري- يبغض التعصب الحزبي الأعمى، كما يستخف بالتمترس المذهبي ويمقت الاصطفاف المناطقي. في ذات الوقت الذي يؤمن فيه أن أولى الأولويات هي أن يمارس اليمني الحرية بلا حدود، وأن يزاول الرفض بلا ترهيب، والانضواء بلا ترغيب، بمعنى أن يتخذ اليمني قراره وأن يتحمل تبعات هذا القرار؛ ذلك أن ما حدث منذ قرون عديدة؛ هو أن اليمني كان مسلوب الإرادة، مهاناً، مرعوباً، لا تسكن فرائصه، ولا يرعوي جلادوه.
لذا فقد سعى الرئيس علي عبدالله صالح إلى تقوية عنفوان الشعب على حساب عنفوان الحكم.. ذلك أن الشعب بعد أن يغدو قوياً وجسوراً فإن من المستحيل أن يخدعه دجال أو يقهره غاز أو مستبد.
لهذا، وبشيء من الإنصاف، علينا أن نتأمل أن عهد علي عبدالله صالح، إلى اليوم (يوليو ٢٠٠٨)، كان، رغم كل المآخذ، مليئاً بالحيوية في كل اتجاه. كل التيارات وجدت فرصتها في عهد علي عبدالله صالح، كل الأفكار وجدت مناخها في عهد علي عبدالله صالح، الكل قال ما عنده، والكل أخذ ما يريده وترك ما لا يريده، انتعش الصدق والكذب، ازدهرت النزاهة والفساد، تجاسر الوطنيون وارتفعت أصوات الرويبضة، وأخذت كل المشاريع حيزها من التنفيذ.. والمواطن يلحظ كل ذلك. وله أن يستمتع بهذا الحراك ويختار منه ما يريد.
سيذكر التاريخ أن الرئيس علي عبدالله صالح لم يشأ أن تتوسع دائرة المدانين رغم توسع دائرة المخطئين أو دائرة الضالعين في الخطأ، ولم يشأ أن تتوسع دائرة المقبوحين، رغم تكاثر ما يمكن وصفه بـ “الأعمال القبيحة”، ويمكن اعتبار هذه السياسة ميزة للرئيس كما يمكن اعتبارها مأخذاً عليه..
سيذكر التاريخ أن صالح لم يألُ جهداً في تضييق دائرة المنفيين خارج الوطن، كما لا أحد يستطيع أن يقول بأنه أقنع الرئيس صالح بصوابية نهج ما في مضمار ما، ولم يأخذ الرئيس برأيه.
يمكن اختصار نهجه في الحكم أنه كان يقول لمن اتَّهَمَ شخصاً آخر: أَثْبِتْ. ولمن نمّ: صارِح. ولمن اقترح: نَفِّذْ. ولمن شكا: أَشِرْ. ولمن تعب “غيّر جو”.
يعبس في وجه من أخطأ، ويشفق عمن أبطأ، ويتعامى عمن سها. تحتاج الحكمة أحياناً أن يصدق الكذوب حتى يعرف ما هدفه، وأن يطلق سراح المتهم ليعرف من معه، وأن يعفو ليعطي فرصة للتكفير.
يتضايق من ضيق الخيّرين بالمقصّرين، ومن رغبة النزيهين في استبعاد الآخرين. وأحياناً يعاقب البطرين إذا اشتكوا من مسئول يعلم هو جدارته ونزاهته، بتعيين السيئ عليهم.
وصحيح أنه يغلب عليه طابع العفو؛ لكنه في المقابل يمتلك حدساً عجيباً في مواقف بعينها، ولهذا نجده في كثير من المواضع لا يقترب من العفو مجرد الاقتراب. وصحيح أنه ليس دموياً، لكن هذا لا يعني أنه لا يمارس البطش وهذه ليست مذمة، فالأصح؛ أن علي عبدالله صالح، من الزعماء القلائل، الذين يعرفون متى يبطشون، وهذا -باعتقادي- لم يضطر إليه الرئيس إلا في حالات قليلة جداً.
فائق النشاط. يعتني بصحته ومظهره جيداً، ويسأل عن كل شاردة وواردة، وكثيراً ما يُوقع الآخرين بمصيدة التَثَبُّت المفاجئ.
ثلاثون عاماً إلى الآن وهو رئيس، 12 منها بجزء من الوطن و18 لليمن كله، خلال هذه المدة -كما هو حال أي رئيس- تساق إليه عيون الأفكار وجميل الحِكَم، ولباب الفنون، وعصيب التحديات، وجليل العِبر. من شأن موقع كهذا أن يجعل أياً كان، مثقفاً موسوعياً كبيراً.
على أنه يمتلك من المواهب والقدرات الشخصية ما يميزه عن كثير من نظرائه، من ذلك صفة الشجاعة والحدس العجيب الذي يشعره بمكامن الخطر، حتى وإن قدم له المحيطون كل براهين الطمأنة.
إلى ذلك؛ فإنه يمتاز بروح قبلية تجعله يكره التزمّت الشديد في ذات الوقت الذي يشمئز فيه من التفسّخ الزائد. كما يتمتع بتديّن فطري أمسك من خلاله بنواميس التوكل والاستعانة مع أخذ الحيطة والحذر. وشخصياً؛ لم أعثر منه على خطاب أو مقابلة يتحدث فيها عن شأن مستقبلي لم يقل فيها (إن شاءالله) أو (بإذن الله)، إلا في النادر وهذا هو السر كذلك وراء خوضه بعض المجازفات التي يعتمد فيها على إيمانه بالله وإيمانه بالشعب وحسن ظنه فيه؛ ذلك أن إرادة الشعب –كما قال صالح في إحدى مقابلاته- من إرادة الله. ومن هذه العبارة يبدو منه حسن الظن بالله ورضاه بمشيئته.
كل هذه الصفات، مضافاً إليها حنكة الرجل وتاريخه المليء بالمفاجآت، قد رسخت منذ عقد على الأقل في أذهان الكثيرين سلبية قاتلة، فرَكَن الكثيرون إلى قدراته في تجاوز المآزق وكفّوا عن مساعدته؛ بل ورسمت له هذه الصفات صورة أخرى في أذهانهم تصوّره على أنه، أيضا، ولا أحد غيره، الوحيد القادر على اختلاق الأزمات وإخمادها كذلك. (السنوات التالية أثبتت ذلك).
وهنا لابد أن نتوقف قليلاً لنؤكد على نقطة جوهرية بالغة الأهمية؛ وهو أن صالح منذ صعوده في اليوم الأول إلى سدة الرئاسة، برز له خصوم وحُساد مُزْمِنون، وقفوا ضده من أول يوم من قبيل الاستخفاف به والتقليل من قدراته، وظلوا يراهنون على فشله، وكان ينتصر عليهم لأنهم كانوا يحيكون له مكائد أقل بكثير من قدراته. هؤلاء تحولت خصومتهم مع الأيام إلى ما يشبه الحقد؛ وهم الآن –باعتقادي- الطرف الوحيد الذي درس شخصية علي عبدالله صالح جيداً، ومن ثم أصبحوا، منذ سنوات قليلة، يحيكون له مكائد مدروسة بدقة تتناسب مع قدراته؛ في حين أسلَمه محبوه إلى قدراته وتركوه وحيداً في زحمة العواصف.
أسوأ ما يعانيه اليمنيون اليوم، هو تعودهم على مشاهدة الهدر، وسلبية الخيرين تجاه الأحداث والتحديات؛ إذ أن علي عبدالله صالح –في تقديري- حينما يتزاحم أصحاب الرؤى النافعة، ويستطيع محبو هذا البلد وكفاءاتُه الحقيقية أن يوصلوا إلى الرئيس معطيات سليمة، فإنه، وبلا شك، أشجع من يقود إلى انتصار مشرف.
أما في سياسته الخارجية ومهما كان حجم التآمر من بلد ما على اليمن. فإنه طيلة 30 عاماً، لم يحدث أن دعم ولو شفهياً، جماعة متمردة أو معادية لنظام ذلك البلد. وقد حدثني مسئول سابق في هيئة الأركان الصومالية (يوم كان للصومال هيئة أركان)، أن علي عبدالله صالح هو الرئيس الوحيد طيلة الأزمة الصومالية الذي لا يتدخل لصالح طرف ضد طرف ولا لصالح مصالح خاصة به أو ببلاده، وإنما من أجل أن يتفق الصوماليون فيما بينهم بلا ضرر ولا ضرار.. ولهذا فالكل يحترمه. فهو لم يتدخل بالشئون الداخلية لأي بلد شقيق أو صديق.
حتى حين نسلم بحرصه على مصالحه الشخصية، فإن مصلحة الرئيس الشخصية وفقاً لمعايير العقل الخالية من المزايدة، هي في أن يكون اليمن (الذي جعله رئيساً عليه) قوياً وأن يظل موحداً. ذلك أن علي عبدالله صالح –وفقاً للكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل- “قد دخل التاريخ وليس بإمكان أحد أن يخرجه منه”.
أحياناً؛ يبذل الرئيس ما بوسعه ليتفادى وقوع خصمه في مواجهة غير متكافئة معه، لكنه في المقابل عنيد للغاية، يُعمل قواه العقلية على الدوام؛ ويجعل الآخر يستنفد كل تكهنات الدمار والبوار، ليرسم بسمته الحقيقية حين يتفاجأ الجميع أن الأمور عادت من جديد في صالحه، وأنه تجاوز هذا المأزق أيضاً.
من هنا لا يبدو خافياً بأن الأداء السياسي في اليمن تشخصن إلى حد بعيد. وأوضح ما يكون ذلك في خطابات الرئيس التي بدا معظمها في السنوات الأخيرة وكأنها ردود غاضبة على تصريحات معارضيه الصحفية التي لم تصل أصلاً إلى جمهور التلفزيون، وكلما بدا الرئيس منفعلاً وعابساً أيقن معارضوه أنه يقرأ تصريحاتهم، ومن ثم يسترسلون بإلقاء تصريحات جديدة أكثر إغاظة واستفزازاً وهكذا دواليك. إلى أن دخلت السياسة في منحاها التنابزي دائرة الاهتمام الشعبي، فأصبحت حتى النساء في القرى يستهلكن السياسة، وأصبح نادراً ما تجد أشخاصاً من عامة الشعب يتبادلون الخبرة فيما بينهم في أمور الزراعة أو تربية الأولاد أو محامد الأخلاق.. الخ.
قوة الرئيس علي عبدالله صالح تكمن في أنه يعرف بدقة حدود قوته. وأنه بعد كل هذا اللغط، أصبح من وجهة نظري ينظر إلى نفسه باحترام أكثر بكثير من قبل؛ وذلك حينما يرى انتهازية الآخرين أمامه، سواء الأنصار أو الخصوم، وإن كان لهذا الأمر انعكاس سلبي في أحد وجوهه، يتمثل في أنه لم يعد يحب، ولم يعد يثق، ولم يعد يصدق، خصوصاً، وأنه قد سمع كل عبارات الولاء ممن يدعي الولاء له، وكل كلمات الإطراء والمبالغة، كما تلقى أيضاً أقسى التهم وأبشع الإساءات.
صالح والتمديد
الحاصل في بلادنا أن الرئيس علي عبدالله صالح مدد لنفسه فترة الحكم ولكن بطريقة دستورية. على أنني –كمراقب- لا أجد بتاتاً أي صعوبة في أن تعمل القوى السياسية الحاكمة والمعارضة على الاستفادة من طبيعة علي عبدالله صالح ومن رصيده التاريخي الكبير؛ بحيث سيمكنهم معه الانتقال بمفهوم التداول السلمي للسلطة من خانة النظرية إلى خانة التطبيق، لكن هؤلاء لا يريدون له أن يحرز هذا الانتصار. بل ويعملون على دفعه إلى مربعات احترازية شتى (التوريث)، بسبب إصرارهم على أن يقترن التداول السلمي للسلطة بسلب علي عبدالله صالح كثيراً من رصيده المعنوي أمام الشعب. الأمر الذي يضعه أمام امتحان صعب، لهذا، أجد من الضرورة بمكان أن يتدخل المثقفون لتسوية المعادلة. بحيث تؤدي الحرية إلى إنصاف علي عبدالله صالح، وهي إن لم تحقق ذلك، فإن الذي سيخلفه على سدة الحكم سوف يقوم بإلغائها، حتى وإن أبقى عليها كديكور كاذب”.