الرئيسيةثقافة وفن

“الباشق الذهبي” يكشف سر شهرة محمود درويش ونجوميته

عواد علي

أيام تفصلنا عن ذكرى وفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، آخر الشعراء النجوم. وربما ما أثير مؤخرا حول قضية مقال الشاعر السوري سليم بركات الذي فضح فيه بعض أسرار صديقه درويش، وانتصار البعض الأعمى لدرويش، يعيدنا إلى قضية طرحت سابقا في حياة الشاعر، ألا وهي الأسطرة التي نجا منها، إذ تعدّ مُهلكة للشاعر وشعره.

يحاول الشاعر والناقد الأردني راشد عيسى، في كتابه “الباشق الذهبي: نوافذ على سماء محمود درويش”، الإجابة على تساؤلات القراء العرب عن سر شهرة محمود درويش، وأسباب نجوميّته واسعة الانتشار، ولماذا حظي بصيت مترامي الأطراف، فدخل شعره أعماق النفوس، ومكتبات المؤسسات والبيوت، والمناهج الدراسية المدرسية منها والجامعية؟

يقول المؤلف، في مقدمة الكتاب، الصادر حديثا بفصلين عن دار خطوط وظلال للنشر في عمّان، “نال درويش استحقاق الاحترام من أهم المؤسسات الثقافية الدولية حتى بات شعره نموذجا متفوقا لعالمية الأدب. يُزاد على ذلك موسوعة الكتابات والدراسات النقدية التي اشتغلت على شعره، وانحازت إلى بيان إيجابيات ذلك الشعر، متغاضية عن التفكير بأي قصور فني محتمل، ومتحمسة بشكل سحري إلى جماليات الأساليب وأنماط البنية الفنية المتجددة في التشكيل الشعري عند درويش”.

الانتصار على الجرح

بداية يكتب عيسى في الفصل الأول من مؤلفه تحت عنوان “أسانيد الشهرة الشعرية”، عن مجرّات نجم درويش والخصوصيات الفنية في شعره، متبعا إياها بفيض من الصور الوصفية التي يراها في شخصية درويش من مظاهر الكاريزما الخاصة، تلك التي آصرت خصوصيته الفنية، وأسهمت أيّما إسهام في تعزيز شهرته. ويستند عيسى في ذلك إلى تشوفاته المعرفية، التي لعبت دور آلة التصوير في التقاط المشاهد الرئيسة بإيجاز وكثافة.

ويتضمن الفصل الثاني من الكتاب دراستين تطبيقيتين، تتناول الأولى العبقرية الغنائية في شعر درويش، وفاعلية اللغة البلاغية من  خلال تحليل أسلوب النداء في ديوانه “أوراق الزيتون”، ومعالم البراعة التشكيلية في لغة الشاعر وموسيقى شعره.

ويذهب عيسى إلى أن نسبة عالية ممّن درسوا شعر درويش وحللوه كتبوا ما كتبوه بشفافية انبهارية تمجد فن الشعرية في هذه التجربة، بحيث تضاءلت كثيرا نسبة القائلين إن القضية الفلسطينية هي التي حملت القراء على التعاطف مع شعر درويش.

ويرجِع المؤلف هذا التعاطف إلى غلبة الجمال في شعر درويش على السياسي، فالجمالي خالد والسياسي متغير، والجمالي منذور للحرية الفنية المشتركة بين ثقافات العالم، أما السياسي فمحصور في بيئة زمانية معينة.

 فلو حُلّت القضية الفلسطينية، وتحقق السلام المنشود، لن يذهب الشعر السياسي “شعر المقاومة” إلى النسيان، بل سيخلّد ما في ذلك الشعر من معان إنسانية مشتركة، وقيم جمالية إبداعية تجعل الشعر وسيطا للتعلق بحلم الحرية “نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا”، أو “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.

ويرى عيسى أن شعر درويش استطاع أن يجعل الفلسطيني تحديدا منتصرا على جرحه، حين أصبح هذا الشعر ضربا من الانتصار على مأساة فقد الوطن، ونوعا من مواصلة الحياة وتحدّي مآسيها.

ويعتقد المؤلف بأن الشعوب، في نزاعها مع المحتلين، تبحث عن الصمود إما بالعودة إلى التمسك بتراثها ومنجزاتها ورموزها التاريخية والدينية، أو بصناعة الأبطال الأسطوريين، سواء أكانوا أبطال معارك أم أبطال ثقافة، لأن الثقافة هي الفاعلية الوجدانية والفكرية في الدفاع عن هوية الشعب وحريته.

ضد الأسطرة

يبين عيسى أن شعر درويش دفاع ثقافي مضاد، استطاع بفاعلية جمالياته الإبداعية أن ينال كل هذا الاهتمام والإعجاب وربما “الأسطرة”، مشيرا إلى أن الناقد شكري عزيز ماضي هو من انتبه إلى هذه الأسطرة، وحذر في كتابه “شعر درويش.. أيدولوجيا السياسة وأيدولوجيا الشعر” من أسطرة درويش؛ مؤكدا أن تميز شعر درويش وحضوره وتفوقه يجب ألا يُسمح بأسطرته، أو تحويله إلى أسطورة، فمثل هذا التحويل يجعله ويجعل تجربته عصيّة على الفهم والتفسير والدرس.

ويخلص عيسى إلى أن من أسطر درويش ليس الفلسطينيون وحدهم “لحاجتهم إلى رمز ثقافي عظيم يبرز قضيتهم العادلة أمام العالم”، وإنما عشّاق الحرية الجمالية، والحداثة الإبداعية من الباحثين والنقاد والدارسين أيضا، لافتا إلى أن الناقد المصري رجاء النقّاش أول ناقد عربي أصدر كتابا بعنوان “محمود درويش شاعر الأرض المحتلة” عام 1969، بشّر فيه بموهبة درويش.

وحول الهدف من تأليف كتابه هذا، صرّح راشد عيسى أنه أراد بيان أسباب الحظوة العالمية التي نالها درويش، والإجابة عن الأسئلة المكظومة لدى الشعراء من مجايليه تحديدا، فلم ينل درويش عالميته من روافع القضية الفلسطينية إلا بدرجة قليلة، وإنما السبب الرئيس في ذلك عبقرية شعريته التي أخلصت للفن الشعري.

وبين راشد أن درويش أفاد من ثقافات الشعوب كلها وأعاد تدويرها في شعره ليكسبها خصوصية فذة، وبلورتها بأساليب جمالية فاتنة، مؤكدا أن لدى درويش، مثلما لدى أي شاعر آخر، أكان عظيما أم عاديا، اتجاهات شخصية قابلة للانتقاد، لكن الحديث عنها بعد موته غير لائق، فهو غير حي ليدافع عن نفسه.

وأضاف عيسى أنه أدرج في هذا الكتاب بحثين علميين في فنيات شعر درويش، التي لا يختلف عليها اثنان، من أجل إثبات أن الشعر العظيم خالد وعالمي، وأن درويش صار رمزا لشعب فقد أرضه ومصيره، فهو حلم أسطوري يقول للعالم إن فلسطين باقية، وشعره نموذج رفيع لحضارتها الإنسانية الجمالية الشاهدة على حق الخلود.

*كاتب عراقي

زر الذهاب إلى الأعلى