هيثم حسين
ربما يسود نوع من الاعتقاد لدى عدد من الروائيين أن النقد في العالم العربي معدوم، أو شبه معدوم، أو أنه ليس هنالك نقاد، أو أن النقاد يكتبون بناء على محسوبيات، وهم مستقطبون في شلل أدبية يروجون لأعمال أصدقائهم أو من تربطهم بهم مصالح، سواء دور نشر أو مؤسسات صحافية، وهذا بدوره يبقى مثيرا للجدل.
هل النقد إبداع أم أنه فعل إبداعي لاحق على الإبداع؟ إلى أي حد يمكن تصنيف النقد في عالم الإبداع من دون أن يكون مستتبعا بما سبقه من نصوص إبداعية بنى عليها؟ وهل يمكن لأي فعل إبداعي أن يخط طريقه من دون أن يكون مبنيا على تراكم سابق؟ هل يسير النقاد على خطى الأدباء والشعراء والروائيين أم أنهم يرسمون خطوطهم ومساراتهم الموازية والمحاذية والمتضايفة بنوع من الاستقلالية الإبداعية؟
كيف هو واقع النقد عربيا؟ هل هنالك أي تأثير للنقد المفترض والموجود أم أن النقاد يغنون في واد معزول عن عالم القراء؟ هل بالإمكان تقريب النقد من القراء بعيدا عما ينعت به من فوقية وتقعير لغوي واصطلاحي؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير تحضر في سياق مقاربة العلاقة بين النقد والنصوص الإبداعية التي يتناولها بالمقاربة والكشف والتحليل والتفكيك والتنظير في حقوله التي تثرى بالآخر وتثريه ميادينه كذلك.
مداحة نواحة
غياب النقد فيه جانب من الصحة انطلاقا من واقع الحال الذي لا يسر كثيرا، لكن لا يعني تعديم فن النقد والاستخفاف به وإظهاره على أنه تآمر على الإبداع أو خيانة له.
لا يخفى أن كل أديب يعتبر نفسه مبدعا، ويمنح نفسه، من حيث يدري ولا يدري، صفات قد ترقى إلى أن تكون معظمة، ويمنح بعضهم نفسه حق الترفع عن النقد الذي يتوجه إليه، وقد يتهمه بكثير من الصفات التي تناسب روح الأدب، كوصفه بالحاقد المبني على الغيرة والحسد، لا لشيء إلا لأن الناقد أشار إلى نقاط أو هنات أو سقطات أو انزياحات أو كوارث في النص لم تر لصاحبه.
ينوس الاتهام بين الحسد والحقد من قبل أدباء يعتقدون أنهم أكبر من النقد، أو أن النقد لا يرتقي إلى مستوى إبداعهم، وأنه قزم يحاول تقزيم إبداعهم ونصوصهم ليتناسب مع قزميته، ويحجم الحدود والأطر اللانهائية لعوالمهم وابتكاراتهم، وهذا من الأوهام التي تعشش في نفوس وأذهان الكثيرين يتنكرون للآخر وما يقدم عليه من عمل واجتهاد وقراءة وتحليل، ويكتفون بتقييده في خانات الحساد والحاقدين لا غير.
وكأنه في حالات كهذه يراد من النقد أن يكون مداحا نواحا على طريقة شعراء البلاط والمرتزقة ممن يجيدون التلاعب بالكلام وصف الحروف من أجل الاحتفاء بالممدوح وتعظيمه وتقديس منتجه الإبداعي وإظهاره أنه منفرد متفرد لا منافس محتملا له، لو لا ند مفترضا يمكن أن ينازله في منازله المفخمة.
لربما يكون هناك نوع من التقارب المعنوي، ناهيك عن اللفظي، بين الحروف والحروب، مجازيا، في حالة النقد والإبداع، فالحروف التي تبحث عن تقديس الآخر تنأى بنفسها عن خوض غمار حروب أدبية أو معارك تكشف عري من يحاول أن يتزيا بأردية لا تقنع.
ويبدو أن غياب النقد الأكاديمي في الصحافة، واقتصاره على أروقة الجامعات بنسبة ما، ساهم في ترويج نوع من التسطيح والتمييع لمفهوم النقد الأدبي؛ الروائي أو الشعري أو المسرحي، ذلك أن كثيرا من الأدباء بات يطلق صفة النقد على كل ما يكتب عن عمله، سواء أكان عرضا له أم تلخيصا صحافيا بطريقة خبرية أم استعراضية ترويجية، وهذا من مذموم الخلط وتتويه البوصلة النقدية والأدبية.
كثير مما يكتب في الصحافة اليومية يعد عرضا صحافيا يتماشى مع مقتضيات القراءات الصحافية التي تروم السرعة، والتعريف بالنصوص وأصحابها وبعض ما تشتمل عليها، سواء من حكايات أو أساليب بشكل سريع، بعيدا عن التعمق، وهذا أيضا لا يعيبها إذا أخذت في إطارها التوظيفي، ذاك الإطار الذي يبقيها في سياق التعريف والترويج والعرض والتقديم لا الإطار النقدي المأمول.
وينعكس ما يروج في الصحافة اليومية على فهم النقد وماهيته، فيوصف ما ينشر بأنه نقد، ما يدفع الكثيرين من الباحثين عن نشر مواد صحافية، سواء من باب العمل أو من منطلق تصدير أسمائهم في منابر صحافية.
قد لا يلام المبتدئ في تجرئه في حالة الصحافة، لأنه يرى ويقرأ ما ينشر في سياق النقد الأدبي وكأنه عبارة عن تسطيح للنصوص وتلخيص بائس مجتزئ لها، فيجد في نفسه القدرة على المبادرة، والإمساك بزمام الكلمات النقدية والمفاهيم وتقييد النصوص بها، على طريقة تكييفها وفق أدواته المعرفية، لا الارتقاء إلى مستويات جديدة من الخلق والابتكار.
تشويش وإساءة فهم
العلاقة بين النقاد والأدباء مشوبة بشيء من التوتر والتحفظ وإساءة الفهم أحيانا، فهناك أدباء ينتظرون من النقاد أن يكونوا مطبلين دائمين لهم، يقرعون طبول التعظيم لكل ما يكتبونه وما يتفوهون به، بحيث يقصرون دورهم على التطبيل والتزمير، والإبقاء عليهم في زنازين ما يراد منهم من كيل متجدد للمدائح، وتغاض عن أي ملاحظات في الاتجاه الآخر.
اقتصار النقد على نسج إنشائيات تحتفي بالأديب تشويه لعالم النقد والأدب معا، وإخراج له من سياقه العلمي والمعرفي والتاريخي، وجعله نزيل رغبات أشخاص يجدون في أي قول أو نقد يشير إلى ما لا يروق لهم فعلا حاقدا ينبغي محاربته والتعاطي معه بتسخيف وتتفيه، والتشهير بأصحابه بطريقة شعبوية تنال من مصداقيتهم، واتهام النقد بالمتحاملين والمرتزقة والحاقدين.
يكاد أغلب الروائيين العرب يتفقون على غياب النقد الروائي، أو تهميشه لأعمالهم أو قصوره عن متابعتهم، أو بقائه أسير شلل ومجاملات ومحسوبيات، وأن أعمالهم لم تنل ما تستحق من نقد مفترض، وهذا في جزء منه مبني على ما يروج في الصحافة، وفي جزء آخر على ما يفرض على الطلبة والدارسين في الجامعات، بحيث يكون تصدير البعض على حساب التعتيم على آخرين تستحق نصوصهم تقديرا، فيكون ترويج للعملة المناسبة للشلل، وغالبا ما توصف من قبل أصحاب الشكوى بأنها العملة الرديئة، على حاسب ما يعتبرونها العملة الجيدة، والتي تشير إلى نتاجاتهم الإبداعية؟
لا يخفى أن النقد في العالم العربي لا يمر بأفضل أوقاته، ولكن لن يجدي أي تحامل من قبل الشعراء والروائيين على النقاد، واعتبار إبداعهم النقدي قاصرا أو تابعا للإبداع الشعري أو الروائي، لأن هذا يزيد من سوء العلاقة، ويضفي مزيدا من التشويش عليها، ويبقيها أسيرة مجاملات وشلل تروج لبعضها بمنطق تبادل التنفيعات والامتيازات، ويفرض عليها عزلة، ويفقد الثقة بالنص الإبداعي والنقدي معا لدى القراء والمتابعين.
كما أن حلول العرض الصحافي السريع، أو القراءات الانطباعية الصحافية، محل النقد الروائي في العالم العربي، محاولة لزيادة التشويش وخلط المفاهيم والتفاصيل، وتضييع المعاني، وإظهار النقد الذي يوصف في إطار الدراسة الأكاديمية على أنه فعل غريب عن النقد الواقعي، أو أنه يغرد في عالم محدود بقاعات الدرس وأروقة الجامعات لا غير، ولا يتماشى مع منطق الصحافة والقراءات اليومية التي تروم التعريف السريع من دون إثقال على كواهل القراء أو إظهار تعال نقدي عليهم.
وهناك أيضا نقطة، يصفها البعض بأنها مشكلة وآخرون بأنها حالة طبيعية وصحية، وهي متمثلة بصدور كم كبير من الأعمال الروائية والشعرية والأدبية كل سنة، بحيث يصبح معها الكم سمة طاغية على حساب النوع، على أساس أن دور النقاد يأتي في سياق إظهار النوع وتصديره واستخراجه من بين هذا الكم.
لا يقوم الأمر بتصنيف جدلية العلاقة بين النقد والإبداع، لأنه ليس بتلك الحيرة التي يحاول البعض إلصاقها بها، كما أنه ليس بحثا خائبا عن تجنيس للملائكة بين الذكورة والأنوثة، أو تلك السذاجة الباحثة عن الأصل بين البيضة والدجاجة ومن منهما أسبق على الأخرى، لأن للنقد عالمه وللإبداع بدوره عالمه المحاذي الثري، وبالعلاقة بينهما تكتمل العوالم وتخلق عوالم مبتكرة جديدة، تستقي من العالمين لصالح عالم آخر رديف يثري لوحة الأعمال الإنسانية التي تكتسي طابعها المميز من خلال استلهام العوالم وابتكار عوالم جديدة منتمية إليها، وتبلور لنفسها كينونتها وخصوصيتها كذلك.
لكل حقل فكري وأدبي وإبداعي ميدانه المتفرد، وهندسة العوالم لا تعني إلغاء الآخرين أو الحط من شأن ما يقومون به، وإن كان غير متقاطع مع رغبات هذه الجهة أو تلك، والأمر يتعدى ذلك إلى ضرورة فهم أعمق للعلاقات في الواقع بعيدا عن منطق التحيز أو تبادل الاتهامات، ويبقى لكل ميدان أبطاله الذين يكونون أوفياء له، ومقدرين لجهود الآخرين في حقولهم السحرية الثرية بدورهم.
*كاتب سوري