قد يكون حديثي عن الجرح النرجسي اليمني أغضب البعض لكني مُصِر على استخدامه كأداة تفسيرية مفيدة لبعض السلوكيات السياسية والثقافية اليمنية المزمنة وأهمها التغني بالماضي المجيد وتحويله إلى بديل للحاضر البائس.
هناك شخصية يمنية تاريخية تكشف إلى حد كبير كيف سيطرت عقدة (سقوط الحضارة اليمنية القديمة) على الوعي اليمني طوال الخمسة عشر قرنا الماضية، ولم تغادره حتى اليوم.
هذه الشخصية هي شخصية “القحطاني المنتظر”.
ربما سمع الكثيرون عن المسيح المنتظر والمهدي المنتظر والإمام الغائب لكن لم يسمعوا عن القحطاني اليماني الذي سيحكم الأرض شرقا وغربا في نهاية الزمان!
نعم… سقطت الحضارة اليمنية القديمة عام 525م، وحاول اليمني استعادتها والخلاص من الاحتلال الحبشي عبر العون الفارسي.. لكن العون الفارسي تحول إلى احتلال.
فحاول اليمني استعادتها عبر الولاء لدولة الرسول في المدينة.. لكن هذا الولاء ما لبث ان تحول الى احتلال.
حاول اليمني عبر جنديته ومشاركته في الفتوحات أن يستعيد مكانته لكنه وجد نفسه مجرد مقاتل مؤقت في يد بني أمية أو بني العباس أو العلويين.
لم يقتنع اليمني أن المُلْك والحضارة قد خرجت من يده.
ظل موقنا أن الحضارة حضارته إلى الأبد، وأنها وان خرجت من يده مؤقتا ولا بد ستعود إليه!
كان الحكم القرشي يصعد بقوة ويتحول الى امبراطورية، فاخترع اليمني أيديولوجيا “القحطانية” ليواجه بها القرشية والهاشمية.
وليخترع سيراً وهمية لملوك اليمن القدامي الذين اعتنقوا الإسلام قبل ظهور الرسول، وكسوا الكعبة وعظموها وحكموها، وحكموا العالم كله من الشام حتى الصين!!
كانت ايديولوجيا القرشية تقول “الإمامة في قريش”، فتقفز أيديولوجيا القحطانية لتقول “الملوك في حِمْيَر/اليمن”، وهكذا انتقل اليمنى لمواجهة الواقع المر بالأساطير.
اخترع المسلمون عموما أسطورة “المسيح المنتظر” أو “المهدي المنتظر” الذي سيملأ الأرض عدلا للتعويض النفسي عن الظلم والقهر الذي رسخته الدول الإسلامية بعد الخلافة الراشدة.
واخترع الشيعة أسطورة “الامام الغائب” للتعويض عن الصدمات المتلاحقة للفشل في تأسيس دولة آل البيت من العلويين.
وتولى رواة الحديث والاخباريون اليمنيون صناعة أسطورة القحطاني اليمني المنتظر، آخر ملوك الأرض، الذي سينزل حتى بعد نزول عيسى ليحكم العالم، ويفرض العدل، وينتهي العالم كله مملكة يمنية يحكمها يمني!
هل تعرفون ان عدد الأحاديث المروية عن القحطاني المنتظر في البخاري ومسلم وكتب السيرة أكثر من عدد الأحاديث المروية عن المهدي المنتظر؟!
والفضل للرواة اليمنيين طبعا.. من اليمني أبي هريره راوي حديث: “لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه” الذي صححه البخاري ومسلم، إلى الراوي اليمني ذي مخمر راوي حديث: “كان هذا الأمرُ في حميرٍ فنزعهُ الله منهم وجعلهُ في قُريشٍ، وسيعود إليهم”!
تعمق الجرح النرجسي التاريخي داخل اليمني لدرجة أن استعادة المٌلك تحولت إلى وسواس دائم.. خاصة وان اليمن نفسها صار محكومة من غير اليمنيين من آل الرسي إلى الإيوبيين والرسوليين والزياديين والنجاحيين.
صار لا بد من تعويض الواقع المزري بالعيش في الوهم والأساطير.. فالمُلك يمني، ولم يكن إلا في اليمنيين وسيعود إليهم حسب حديث آخر رواه محدث يمني آخر يقول فيه: “كان الملك في حِميَر وسيعود إلى حِميَر “!
أما ملوك الأمم الأخرى الأعظم والأقوى من فراعنة وآشوريين وفرس وصينيين فقد اختفوا من المخيال السياسي اليمني القديم.
بل انهم اخترعوا تاريخا لملوك اليمن يحكمون فيه كل الحضارات القديمة من العراق إلى الشام ومصر والهند والصين.
وكما إن أسطورة المهدي المنتظر لا زالت توجه اللاوعي الشيعي المعاصر وتحدد أساطيره السياسية، لا زالت اسطورة القحطاني المنتظر توجه اللاوعي السياسي اليمني وتشده لماض وهمي لم يكن، وتؤخره عن مستقبل مجهول لن يكون!
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك