يعرف الدكتور “ياسين سعيد نعمان”، أكثر من غيره، أن “العلمانية” مبدأ شريف لا ينسجم مع الكهنوت، أياً كان دينه أو مذهبه، وأن “البيان الشيوعي” لم يحث أمثال “جيفارا” على حمل المباخر لأمثال “راسبوتين”.!
لكنه “يتعامس”، ويصر على تكريس علاقته، وعلاقة حزبه العلماني العريق بـ”جماعة الإخوان”. رغم كونها، من حيث الكم والكيف، علاقة غير شرعية، وبمثابة خيانة فاضحة لهذه المعرفة.!
أقصد: بـ”غير شرعية”. كونها مخالفة للسنن التقليدية للتحالفات السياسية التي يحتفظ خلالها كل طرف بقيمه وتوجهاته ومشروعه وقضاياه الخاصة، وشخصيته السياسية والفكرية المستقلة.
الحزب الاشتراكي اليمني لم يحتفظ بشيء من كل هذه القيم الوجودية. وانجرف حد التماهي والتلاشي في الطرف الآخر النقيض.. كما لو أنه أصبح مجرد قناع مدني لجماعة دينية.!
فعل ذلك أيضاً مع “الجماعة الحوثية”، لكن بشكل غير رسمي، وعلى مستوى الأفراد والقيادات الوسطية.. والسؤال:
ما الذي يتبقى من حزب يساري علماني عندما يتخلى عن يساريته وعلمانيته.. حد المطالبة نيابةً عن جماعة دينية، وربما قبلها. بأسلمة الدستور.. كما حدث خلال “مؤتمر الحوار الوطني”؟!
لا شيء تقريباً، وهو أمر يدعو إلى الخجل فعلاً، لكنه لا يبرر للدكتور ياسين أن ينكر تماماً. هذه الفعلة المشينة، أو يطالب بأدلة ووثائق دامغة على ما اعتبرها تهمة مغرضة.!
تتعلق القضية هنا بالموقف الرسمي للحزب من المواد الثلاث الأولى للدستور الجديد. والمعنية بتحديد شخصية الدولة، وماهية النظام الحاكم، وبالذات بمسألة الحاكمية ومصدر السلطات والتشريعات..
أي بأهم ما في أي دستور في العالم، ومن الطبيعي أن هذه المواد كانت هي محور الصراع بين القوى الجمهورية المدنية، والقوى الدينية، في اليمن. منذ اندلاع ثورة 26 سبتمبر 1962م حتى اليوم.
قبلها، في ظل الكهنوت، كان الإمام يحكم نيابة عن الله، فالله هو مصدر جميع السلطات، والشريعة الإسلامية هي مصدر جميع التشريعات، والقرآن هو الدستور الذي يتعارض مع المطالبة بأي دستور.!
من نافلة القول: إن حاكمية الله والشريعة الإسلامية حينها، كانت كاليوم، وكعادتها دائماً.. مجرد ورقة زائفة في اللعبة السياسية التي هي بطبيعتها صراع طبيعي يدور حول السلطة، ليس بين الله والشعب، بل بين الأوصياء والشعوب.
لذلك التفّ الأئمة على مطالب الشعب، بالقول إن الله هو الحاكم وهو المشرّع، ولأن ثورة 26 سبتمبر مثلت قطيعة تامة مع ذلك النظام، ومع الثقافة التي أنتجته.. كان لا بد من”دستور”، وقد نصت أول صيغة دستورية جمهورية، في المادة الثانية للدستور المؤقت الصادر في 13 أبريل 1963م على أن:
“الشعب اليمني يحكم نفسه بنفسه، وهو مصدر جميع السلطات”.
وكسكوت بليغ، فقد خلا ذلك الدستور الثوري المؤقت من أي إشارة إلى علاقة الشريعة الإسلامية بالتشريع، مكتفياً بالنص على أن:
“الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية”.
منذ البدء تعرض النظام الجمهوري لثورات مضادة من خارجه للإطاحة به، وبشكل أخطر من داخله، من قبل القوى القبلية والدينية التي -توازياً مع تنامي نفوذها في النظام الجمهوري- جسدت حاكميتها دستوراً، بفرض الصيغة:
“الإسلام دين الدولة، والشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعاً”.
أول انقلاب على النظام الجمهوري تجسد مبكراً بهذا الشكل، فى مقدمة الدستور الدائم الصادر في إبريل عام 1964م:
“الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعاً”.
لكن العملية ظلت محل خلاف وصراع، ولأسباب داخلية وخارجية معروفة تمكنت تلك القوى التقليدية، من فرض شروطها على الدستور المؤقت الثاني رقم 37 لعام 1965م، وكذلك الدستور المؤقت الثالث والصادر في 25 نوفمبر 1967 والذي نص على أن:
“الإسلام دين الدولة، والشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعاً”.
فقط مع تحقيق الوحدة اليمنية 1990م تمت إعادة النظر في كل شيء تقريباً، لصالح القوى المدنية الوطنية الجمهورية، على رأسها الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان بلا شك الفاعل الأهم في صياغة دستور الوحدة، وفي صدارته:
“الشعب مصدر جميع السلطات، والشريعة الإسلامية ((مصدر من مصادر)) التشريع”.
كانت الوحدة حدثاً ثورياً استثنائياً في التاريخ اليمني المعاصر، وبمثابة ميلاد جمهوري جديد اقتضى قيماً جديدة مدنية حرة، تحققت دستورياً بالنص على حاكمية الشعب والعصر والحياة.
بطبيعة الحال. لم يكن أمام القوى التقليدية التي عجزت عن الحيلولة دون تحقيق الوحدة، إلا رفض دستور الوحدة، فأعلنت حرباً مصيرية عليه وصولاً إلى إسقاطه عسكرياً في نكبة 1994م.
عندما طُرحت القضية مجدداً للنقاش في مؤتمر الحوار 2012. كانت قد جرت في النهر مياه ودماء كثيرة.. جرفت الحياة السياسية والقوى المدنية واليسار بمجمله، وصولاً إلى سقوط الدولة لصالح الجماعات الدينية المتناحرة بدايةً من أحداث 2011م.
حينها، لم يعد الحزب الاشتراكي اليمني، حزباً ولا اشتراكياً ولا يمنياً.. بعد تحوله إلى ظل باهت لجماعة دينية سياسية دولية دعت في مقدمة رؤيتها الرسمية المقدمة إلى مؤتمر الحوار الوطني:
“كافة الأطياف الاجتماعية والسياسية في اليمن للتوافق على عدم المساس بالمواد الثلاث الأولى للدستور اليمني الحالي”.
هذه المواد هي غنيمة الإخوان من حرب صيف 94 ضد الحزب الاشتراكي اليمني الذي كما لو أنه أصبح بدوره غنيمة من غنائم الحرب، نص في صدارة رؤيته الرسمية المقدمة لمؤتمر الحوار. ضمن الأسس العامة، على أن:
“الإسلام دين الدولة، واللغـة العربيـة لغتهـا الرسميـة”.
“الشريعـة الإسلاميـة مصـدر ((جميع)) التشريعـات”.
لا معنى لإنكار د. ياسين لما صدر رسمياً عن حزبه، وربما كتبه بيده، وربما كتبه اليدومي نفسه، ففي الأخير هذا الموقف التبعي هو أحد تجليات حالة شاملة جرفت كيان الحزب وكينونته..
في كل حال: القضية ليست شخصية، ولا تنحصر بحزب يساري بعينه، بقدر ما تتعلق بظاهرة سياسية عامة تتمثل بتجريف اليسار اليمني برمته من قيمه ورؤاه وتوجهاته اليسارية.
بل تتعلق قبل كل شيء بإفراغ النظام الجمهوري من قيمه الجمهورية، وهذا ما تم على يد الإخوان والقوى القبلية الحليفة، لدرجة أن الإمامة نفسها لم تجد مشكلة في إعادة نظامها البائد تحت قشرة هذا النظام المنخور.