تحالفات ساسة اليمن.. اصطفافات هشة وخيارات مرحلية “تاريخ الخلافات بين الأحزاب”
بعد مرور أكثر من خمس سنوات على اندلاع الحرب اليمنية لم يعد الوضع في هذا البلد شأنا داخليا فقد تحوّل إلى نزاع بين القوى الإقليميّة. ولكن مع الجمود الدبلوماسي لإسكات البنادق بدأت تطفو على السطح خارطة جديدة للتحالفات على خلفية التوجهات الداخلية والخارجية للقوى السياسية الفاعلة في المشهد المتشرذم، والتي يعتقد مراقبون أنها اصطفافات طارئة بمنطق براغماتي للحصول على بعض المكاسب التي قد لا تدوم طويلا.
تشير العديد من التفاعلات في المشهد اليمني إلى إمكانية بروز خارطة جديدة للتحالفات السياسية التي يغلب عليها طابع المصالح الآنية والسعي لحصد مكاسب سريعة لا تتسم بالبعد الاستراتيجي أو الارتباطات الأيديولوجية.
وتأتي التطورات المرتقبة كامتداد لمسلسل طويل من الاصطفافات الهشة في المسرح السياسي اليمني خلال العقدين الأخيرين، والذي شهد موجات متتالية من التحالفات بين أحزاب وقوى ومكونات متباينة في الخلفيات الأيديولوجية والأهداف، سرعان ما تحولت إلى عداوات ضارية بين تلك الأطراف في مراحل لاحقة.
ومن أبرز النماذج التي يمكن استحضارها في هذا السياق، تكتل “اللقاء المشترك” الذي تأسس في مطلع العام 2003 من مزيج غير متجانس من أحزاب المعارضة اليمنية، بكافة أطيافها، الإسلامية واليسارية والقومية، بهدف مواجهة نظام الرئيس اليمني آنذاك علي عبدالله صالح وحزبه المؤتمر الشعبي العام.
وتلك المهمة تصاعدت تدريجيا، حتى بلغت ذروتها في 2011 عندما مثلت تلك الأحزاب الرافعة السياسية للاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام، بالتناغم مع الجماعة الحوثية التي تسللت عبر تلك الفوضى السياسية والشعبية إلى قلب العاصمة صنعاء وخلقت واقعا جديدا بعد ذلك بأربع سنوات.
تحالفات مرحلية
جاء تكتل “اللقاء المشترك” بحسب خبراء في الشأن اليمني كردة فعل مباشرة على انهيار تحالفات سابقة كان الطرف الأبرز فيها الرئيس علي عبدالله صالح وحزبه المؤتمر الشعبي العام في مرحلة التعددية السياسية التي بدأت قبل ثلاثة عقود.
وكان الطرف الآخر على تلك المعادلة هو تنظيم الإخوان المسلمين الذي لعب دورا محوريا في ثمانينات القرن الماضي لمواجهة المد اليساري المدعوم من جنوب اليمن في الشمال، وهو التحالف الذي انتهى عمليا بشكله القديم، بعد إعلان الوحدة اليمنية في العام 1990 وبروز شراكة هشة لم تدم طويلا بين حزب المؤتمر الشعبي العام والحزب الاشتراكي اليمني.
وتجدد بعد ذلك التحالف القديم بين صالح وحزبه من جهة، والإخوان عبر واجهتهم السياسية “التجمع اليمني للإصلاح” في حرب صيف 1994 التي بدأ بعدها حماس الرئيس صالح تجاه تحالفه التقليدي مع الإخوان يخفت بدرجة لافتة تحت تأثير نشوة الانتصار والسعي للتحرر من أعباء التحالفات السياسية والقبلية القديمة التي اعتبر أنها باتت عبئا على مشواره السياسي.
وقد أسهمت تداعيات 2011 وسقوط نظام صالح وتحوله من حاكم كامل الصلاحيات إلى شريك بنصف الحكومة مع المعارضة في فتح أبواب التحالفات غير المنطقية التي عرفت بها الأحزاب اليمنية.
وتمثل ذلك في تحالف خفي مع الحوثيين خرج إلى العلن رسميا من خلال إشهار المجلس السياسي الأعلى في صنعاء في يوليو 2016 والذي انتهى بعد ذلك بأكثر من عام، إثر المواجهة بين صالح والحوثيين التي انتهت بمقتله في ديسمبر 2017.
وأفرز مقتل رئيس حزب المؤتمر واقعا جديدا انعكس على فوضى التحالفات اليمنية، حيث انقسمت قيادات الحزب إلى ثلاثة تيارات رئيسية، الأول فضل البقاء في التحالف القسري مع الحوثيين، خشية من بطشهم أو استمرارا للموقف المعادي للحكومة الشرعية والتحالف العربي.
وظهر فصيل آخر اتخذ موقفا معاكسا من خلال الانضمام إلى الشرعية بشكل كلي والذوبان في منظومتها والقبول بالتالي بهيمنة طرف سياسي كان يناصب المؤتمر العداء، فيما فضل تيار ثالث ترقب التحولات وانتهاج سياسة معادية للحوثيين من دون الانخراط في منظومة الشرعية، ويمثل هذا التيار بصورة واضحة ابن شقيق الرئيس، العميد طارق صالح الذي يقود “المقاومة الوطنية” في الساحل الغربي.
وعلى خلاف الأحزاب والتنظيمات اليمنية، لم يدخل الحوثيون في أي شراكات سياسية فيما عدا تحالفهم اليتيم مع حزب المؤتمر الشعبي العام الذي انتهى بصورة دراماتيكية بعد عام تقريبا مع توقيع الاتفاق مع المؤتمر.
ويرى مراقبون أن الطبيعة العقائدية الصارمة لجماعة الحوثي وتكوينها العسكري وظروف تأسيسها في جبال صعدة في ظل صراع دائم مع السلطة آنذاك، أسهمت في خلق هذا النمط السياسي اليمني الذي لا يقبل بالشراكات إلا باعتبارها جزءا من الصراع كما حدث في حالة التحالف الاضطراري مع علي عبدالله صالح تحت ضغط الحرب اليمنية التي وصلت في العام 2016 إلى تخوم العاصمة صنعاء.
وتشير المعطيات إلى أن الحوثيين في طريقهم لتصفية ما تبقى من مظاهر شراكتهم الصورية مع حزب صالح بعد مقتله، حيث أبدوا حرصا على إبقاء هذا التحالف مع من تبقى من قيادات المؤتمر تحت سلطتهم في صنعاء، قبل أن يتخلوا تدريجيا عن هذه الشراكة، مع تزايد شعورهم بالقوة.
وقد كان الإعلان عن اعتزامهم إجراء انتخابات نيابية جديدة في مناطق سيطرتهم وإغلاق البرلمان الذي يضم أغلبية من حزب المؤتمر مؤشرا حقيقيا على ذهابهم نحو الاستحواذ بشكل أحادي ونحو فرض سلطتهم بعيدا عن أي شركاء، مع تلميحهم إلى ترك باب الانضمام إليهم مواربا أمام الأحزاب والمكونات اليمنية الأخرى ولكن كتابعين فقط.
سياسة براغماتية
في خضم الأزمة السياسية التي شهدها اليمن قبل سقوط نظام الرئيس علي عبدالله صالح في العام 2011، تبادل صالح ومحمد اليدومي رئيس الهيئة العليا لحزب الإصلاح الاتهامات باستغلال كل منهما حزب الآخر كورقة في الصراع السياسي.
وتكشف قائمة التحالفات التي دخل فيها حزب الإصلاح مع مكونات أخرى ثم انقلابه على هذه المكونات عمّا يصفه البعض بحالة فريدة من البراغماتية السياسية التي عرف بها الحزب الذي يبرر قادته ذلك السلوك عادة بأنه نتيجة لتعرضهم لمؤامرات سياسية مستمرة تستهدف إقصاءهم.
ويمكن الإشارة هنا إلى تحالف الإخوان مع المؤتمر في مواجهة المد اليساري والقومي والبعثي في شمال اليمن، ثم تحالفهم مع هذه المكونات لإسقاط نظام صالح في العام 2011، ثم تحول تحالفه مع هذه المكونات إلى عداء مرة أخرى وخصوصا في مناطق سيطرته بعد حرب 2015.
ورغم تاريخ العداء الأيديولوجي والسياسي بين جماعتي الإخوان والحوثيين، هناك أصوات خافتة داخل هاتين الجماعتين تلوح بين الحين والآخر بإمكانية حدوث تقارب على خلفية العداء المشترك الذي يجمعهما مع بعض دول التحالف العربي.
ويعتقد مراقبون يمنيون أن التحالف العربي غير المنطقة في المرحلة الراهنة على أقل تقدير، عدا ما يظهر من تقارب بين تيار قطر وتركيا والحوثيين في الجانب الإعلامي على وجه التحديد، والذي قد يكون دافعه الارتباط بأجندة الدوحة والنكاية بدول التحالف.
وفي المقابل، برز تيار صاعد داخل حزب الإصلاح، يتبنى خطابا تصالحيا مع حزب المؤتمر الشعبي العام ويطالب بعودة التحالف القديم لمواجهة التحديات الجديدة، بما في ذلك الحوثيين، والمطالبين بانفصال جنوب اليمن.
ويتعامل جزء كبير من قيادات المؤتمر المناهضين للحوثي بحذر مع تلك الدعوات استنادا إلى تاريخ العلاقات المتوترة مع الإصلاح، فيما ينظر إليها قسم آخر باعتبارها محاولة لاستثمار حالة الشتات التي يعيشها المؤتمر في ضرب الخصوم الجدد.
ومع بروز دور المجلس الانتقالي الجنوبي في مسرح الأحداث اليمنية وخصوصا في المحافظات الجنوبية، يبدو هذا الكيان أكثر وضوحا في ما يتعلق بقائمة عداواته التي تضم التيارات الراديكالية بما في ذلك الحوثيين وجماعة الإخوان المسلمين في اليمن.
وينطلق المجلس في تحديد قائمة أصدقائه من الالتقاء على محدداته السياسية التي تشمل مطالبه بحق تقرير المصير في جنوب اليمن، ورفضه لأي نفوذ للإخوان في المحافظات الجنوبية، ومناهضته الصريحة للمشروع الحوثي عبر مشاركته في معارك تحرير الساحل الغربي.
وإضافة إلى الميليشيات الحوثية التي يخوض معها مواجهات مستمرة في جبهات الضالع والساحل الغربي لليمن، وجماعة الإخوان، تضم قائمة خصوم المجلس الانتقالي فصيلا جنوبيا مدعوما من قطر يقوده القيادي الجنوبي حسن باعوم الذي أعاد إحياء مكونه الذي يتهم الانتقالي بالارتهان لدول التحالف.
وتربط المجلس الانتقالي علاقة مرحلية بقوات العميد طارق صالح في الساحل الغربي كفصيل شمالي وحيد، حيث تجمع الطرفين قاعدة العداء المشتركة للحوثي والإخوان، لكن التباين اللافت في الموقف من استمرار “الوحدة اليمنية”، قد يجعل من هذا التحالف مرهونا فقط بالتطورات التي قد تشهدها البلاد خلال الفترة المقبلة.
ويرجح مراقبون أن تشهد المرحلة المقبلة إعادة صياغة خارطة الاصطفافات السياسية على أساس جهوي، بحيث يصبح أعداء الأمس، أصدقاء اليوم على قاعدة ما يعتبرونها “الأولويات الوطنية” و”المصالح المشتركة”.
*صحافي يمني