لقد تحدث جميع العظماء والحكماء والفلاسفة والعقلاء عن بناء عظيم ومدنية جديدة ستؤسس على قاعدة كبيرة، ستعم فيها السلام والأمان لكل الناس، كما تغنى الشعراء بمحامدها. إن هذه المدنية التي حلم بها البشر لن تُبنى بالحديث والكلام والرؤى والأحلام؛ بل بالمبادرة والعمل والاجتهاد؛ فالله يمنحنا الروح والعقل واليدين، ولكنه لا يبني لنا الجسور. فنحن نعلم أن بناء المجتمع شيء مهم وحسن ولكن هل العلم بهذا الشيء وحده يكفي؟ لا؛ بالطبع لابد لنا أن نشد العزم والتصميم ونعمل لكي ننجز الهدف ونصل للغاية. إذاً علينا جميعاً أن نتكاتف ونتعاون لبناء مجتمع جديد مبني على أساس القيم والفضائل ومرصوصة اللبنات على قاعدة الوحدة والمحبة.
ولكن لكي نبني عالياً ينبغي علينا أن نضع أساساً قوياً. نقصد بالبناء هنا هو بناء الإنسان بناء المجتمع الإنساني. وقاعدة هذا البناء هم الأطفال. فعلينا أن ننظر للأطفال على أنهم أنفس كنز يمكن للمجتمع أن يمتلكه لأن فيهم نرى أمل المستقبل وضمانه؛ فهم بمثابة منجم يحوي أحجاراً كريمة، تخرج بالتربية جواهره إلى عرصة الشهود وينتفع منها العالم الإنساني.
في المقدمة علينا أن ننظر لكل طفل على أنه موجود شريف ونبيل، وله بعدان روحي ومادي، ولكي نصل إلى الكمال نحن بحاجة إلى الرقي المادي والروحاني معاً (أي إلى التربية الروحانية والتربية المادية). التربية المادية هي تحصيل العلوم والفنون والمهارات على يد معلم ماهر متدرب. أما التربية الروحانية هي عبارة عن تربية القلوب والأخلاق بالفضائل الإنسانية والكمالات المعنوية. والطفل بحاجة إلى الاثنتين، وإذا لم يُربَّ فإنه يكون في نهاية التوحش، فالتعليم والتربية هي التي تجعل الإنسان إنساناً، وإذا ترك على الطبيعة فإنه يكون مثل سائر الحيوانات، وكما أن التربية تجعل الغصن المعوّج مستقيماً وتجعل الأجمَّة حديقة وتجعل الشجرة عديمة الثمر مثمرة، وتجعل الأرض الشائكة حقلاً للسنابل، فبتربية الأطفال ستُعمّر الديار المنهدمة، وتجعل الجاهل كاملاً بصيراً. ولكن في حال أن تعلم الطفل التربية الجسمانية وانحرم من التربية الروحانية لا يصير كاملاً وسيحس بنقص كبير في حياته، ولن يقوم بتأدية دوره نحو مجتمعه وواجبه نحو البشرية بأكمل وجه. فمثلاً: هنالك أطباء مشهورون في العالم، قد اكتسبوا التعليم ومهارة مهنة الطب ولكنهم انحرموا من فيض التربية الأخلاقية، تراهم اليوم يتاجرون بأعضاء البشرية، أو لا يرحمون المرضى من الفقراء ولا يرضون بمعاينة من ليس لديه المال الكافي حق المعاينة والكشف. إذاً أطفالنا بحاجة إلى التعليم والتربية الروحانية قبل الجسمانية. ففي المدارس يجب أن تدرس التربية الجسمانية والروحانية معاً؛ لأن العلوم المادية بمثابة الجسد وفضائل الأخلاق بمثابة الروح، ويجب أن تنفخ في الجسد روح لينال الحياة. أما إذا لم تكن هناك روح فالجسد يكون ميتاً مهما يكن في منتهى الجمال، ويغدو عديم الثمر وبدون نتيجة بل أحياناً يكون عدمه أحسن من بقائه كما ذكرنا في المثال السابق.
إن المفتاح الأول والأساسي في تربية الطفل هم الوالدان وخاصة الأم، لذلك قال الرسول الكريم (ص): “الجنة تحت أقدام الأمهات “. وعليه يجب إعطاء الأهمية القصوى بتربية وتعليم وتأهيل الفتيات لأنهن أمهات المستقبل وأول مدرسة يدخل فيها الطفل.
أما مفتاح النجاح الثاني لأيّ خطة تطمح إلى التعليم الروحاني والمادي للأطفال هو تدريب المعلم. لأن معلمي الأطفال لهم التأثير القوي على جعل هؤلاء الأطفال يدركون هذا المفهوم، وعندما يقبل المعلم بقناعة تامة أن كل طالب من الطلبة هو بمثابة منجم مليء بالأحجار الكريمة، وقبول هذه الفكرة لا تكفي بحد ذاتها بل يجب على المعلم الاطلاع على الخواص الروحانية، وأن تكون لديه معرفة كافية عن المواهب والقدرات البشرية لكي يستطيع اكتشاف الجواهر الثمينة في تلاميذه ويبذل جهده في مساعدتهم لصقل هذه الجواهر، كما يجب أن يكون لديه إلمام تام بأهمية العمل من أجل تنمية الطباع والسلوكيات التي تتماشى مع طبيعة الحياة الأخلاقية. في البداية على المعلم أن يعشق مهنة التعليم، ويعلم أن خدمته في حقل التعليم إنما هو عبادة لله، لأنه يربي شجيرات الجنة، وهذا من أعظم الخدمات، ومن ثم عليه أن يبرز صفتي المحبة والتفاهم، لأن هاتين الصفتين تجعلان الطلاب قريبين جداً منه، فعليه أن يعتبر كل طالب مخلوقاً نادراً من صنع الله سبحانه وتعالى، ولديه مواهب وقدرات خاصة اختصه بها الله، ولكن الشيء الأكثر أهمية هو الفهم بأن لكل طفل قدرة على المعرفة والتطور الأخلاقي، ولا يوجد طفل غير قابل للإصلاح، فكلهم صالحون وباستطاعة الكل أن يطوروا صفاتهم الروحانية، يجب على المعلم أن يؤمن إيماناً صادقاً في قلبه بأن الجنس البشري خُلِق نبيلاً يمكن للمعلم من خلال مساعدة التلاميذ إظهار هذا النبل. فلقد خلق الله الإنسان شريفاً ونبيلاً وفضله على جميع الكائنات واختصه بمواهب كلية فأعطاه العقل والإدراك وقوة الحافظة وقوة التخيل والحواس الخمس الظاهرية، وجعله مصدراً للفضائل كي يسطع كالشمس ويكون سبباً للحياة والبناء والعمران وتقديم الخير لمجتمعه بل للعالم بأسره..
إذاً المعلم الحقيقي هو من يسعى للوصول إلى قلوب الأطفال، ويعمل بجد لاكتشاف مواهبهم الإلهية المكنونة فيهم واستخراج الجواهر الدفينة في نفوسهم، تماماً كما يهتم صائغ المجوهرات بصقل وتهذيب المعادن والأحجار الكريمة. فالوصول إلى قلوب الأطفال أهم من الوصول لعقولهم، ولن نصل لعقولهم مادامت قلوبهم مغلقة.
ولنتذكر معاً مقولة سقراط: “قل لي كيف أعلمه وهو لا يحبني”. فالأطفال ينمون ويتغيرون بالحب، وبدون حب تزداد أعمارهم وتتغير ملامحهم وأحجامهم فقط.
أود في خاتمة حديثي معكم أن أحكي لكم ذكرى عزيزة على قلبي:
في إحدى حلقات صفوف الأطفال، سألت أطفالي: هل قمتم بتلوين الصورة؟ ثم توجهت لصغيرتي جميلة (وهي أصغر تلميذة) في الصف، ونظرت في ورقتها وشجعتها: برررافو جميلة تلوينك رائع.
أشارت لي بأصابعها الصغيرة كي انحني فثمة كلام تود أن تهمسه في أذني. قالت لي: اسمي جميلة، بس لأني بحبك فيكِ تناديني جمولة.
لا تعلمون مدى اشتياقي لأطفالي وخاصة حبيبة قلبي “جمولة” حتى أعود لهم من جديد. ودمتم سالمين.