تبعث مواقف بعض الدول الغربية رسالة بالغة التناقض عن مواقع تلك الدول من انتهاكات حقوق الإنسان، ورؤيتها لتلك القضايا التي تدعي تمثيلها من زاوية انتهازية فجة مشبعة بالمصالح السياسية والقبول بالأمر الواقع.
ففي الوقت الذي يبدي فيه الغرب تساهلا تجاه أنظمة وجماعات قمعية وفاشية مثل إيران وحزب الله وجماعة الحوثي، تنشط مواقف تلك الدول لتسليط الضوء على اعتقال ناشط هنا ومساءلة ناشطة هناك، في حين يسعى الاتحاد الأوروبي لإنقاذ الاتفاقية الموقعة مع دولة مثل إيران سجلّها حافل بالجرائم والانتهاكات والقمع، ليس داخل حدودها فقط، بل في دول أخرى مجاورة تسببت طهران في مقتل الآلاف من مواطنيها بشكل مباشر أو غير مباشر، كما هو الحال في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
ولا يجد الغرب غضاضة في الدعوة للسلام في سوريا مع نظام متهم بقصف شعبه بالأسلحة المحرمة دوليا، كما لا يجد المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن غريفيث غضاضة كذلك، في مطالبة مجلس الأمن الدولي بالعمل على رفع اسم الجماعة الحوثية من قائمة الجماعات الإرهابية.
والغريب أن مناشدة غريفيث لواشنطن على وجه التحديد جاءت بعد أيام قليلة من زيارة قام بها المبعوث الأممي إلى العاصمة اليمنية المؤقتة عدن، اطلع فيها على حجم الدمار الذي خلفه القصف الحوثي للمطار أثناء وصول الحكومة اليمنية الجديدة، وأظهرت الصور غريفيث مصدوما وحزينا جراء صور الدمار التي تسببت في مقتل وجرح العشرات من المدنيين، من بينهم أربعة من موظفي الصليب الأحمر الدولي.
ويندرج موقف المبعوث الأممي إلى اليمن في سياق قائمة طويلة من التناقضات التي باتت حديث الشارع اليمني، الذي يكتوي بنار القمع الحوثي وسياسة التجويع الممنهج التي تتبعها الجماعة، والتي كشفت عنها منظمات دولية عاملة في اليمن، تحدثت عن تضييق الحوثيين على نشاط المنظمات الإنسانية العاملة في اليمن وسرقة المساعدات.
غير أن ذلك أيضا لم يمنع البعض من تلك المنظمات من الاعتراض على تصنيف الحوثي كجماعة إرهابية، انطلاقا من التأثيرات المحتملة لمثل هذا القرار على الجانب الإنساني الذي لم يلمس اليمنيون شيئا منه على أرض الواقع، في ظل حديث متداول عن استشراء الفساد في المنظمات الدولية العاملة في اليمن.
وتعيدنا تلك التناقضات الفجة للخطاب السياسي الغربي إلى طريقة تعاطي المجتمع الدولي مع الأزمة اليمنية بشكل مثير للاستهجان والاستغراب معا، ففي حين يتعثر تنفيذ اتفاق السويد الذي مرّ عليه أكثر من عامين، والذي تنتهكه كل يوم القذائف الحوثية في محافظة الحديدة، يتكرر موقف الأمم المتحدة ومبعوثها إلى اليمن المسنود بمواقف الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاق “الإعلان المشترك”.
مصير مثل هذا الاتفاق لن يكون أحسن حالا من المبادرات والاتفاقات التي تم التوقيع عليها بين الفرقاء في اليمن بدافع الاستجابة للضغوط الأممية والدولية، كما حدث على سبيل المثال في اتفاق السلم والشراكة الذي وقعت عليه المكونات اليمنية برعاية المبعوث الأممي الأسبق جمال بنعمر، الذي تعرض موكبه بعد ذلك لإطلاق نار حوثي في صنعاء، بعد أن استكملت الميليشيات سيطرتها على بقايا الدولة، التي عبرت إليها من خلال اتفاق “السلم” المزعوم، عشية يوم الانقلاب 21 سبتمبر 2014.
والواقع أن الرؤية الرومانسية للغرب والخطاب الناعم المغلف بعبارات الدعوة للسلام وضرورة وضع حد للحرب والمعاناة الإنسانية في اليمن، تفتقر لأدنى حدود الواقعية السياسية التي يمكن أن تعالج الأزمة اليمنية، حيث تقول أبسط قوانين المنطق السياسي، إنه لا يجب أن يكافأ الطرف الذي انقلب على الدولة وأشعل نيران الحرب وتسبب في مقتل الآلاف وتهجير الملايين من اليمنيين.
ويبدو أن إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته أدركت ذلك ولكن في وقت متأخر جدا، حيث عمدت إلى إدانة الحوثيين بشكل صريح، وضمتهم إلى خانة المشروع الإيراني في اللحظات الأخيرة قبل رحيلها، وهو الموقف الذي جعل الكثير من اليمنيين يقدرون هذا الموقف الأميركي اليتيم.
وذلك على خلاف الموقف الأوروبي الذي ما زال ينطلق من زاوية مشوشة في التعامل مع الواقع اليمني وخلفيات الصراع فيه، يقودها التخوف من الانعكاسات الإنسانية لقرار واقعي من قبيل إعلان الحوثيين جماعة إرهابية، بحجة أن هذه الجماعة تحتجز الملايين من اليمنيين كرهائن لديها، في الوقت الذي تقول أبسط معايير المنطق السياسية مجددا: أليس الأولى تحرير هؤلاء الرهائن بدلا من مراضاة الخاطفين؟