عشر سنين مرت على العالم العربي، لم يشهد مثل بؤسها ودمارها وخرابها منذ قرون.
عشر سنين وقْع آثارها ومدى تأثيرها يفوق ما فعله التتار والصليبيون بفعل ثورة الاتصالات التي نقلت كل مشهد إلى كل عين من المحيط إلى الخليج، وبذلك سيكون عمق وشمول التأثير على الإنسان والمجتمع أقوى من كل كوارث التاريخ التي كانت تحدث في منطقة معينة، يسمع بها الجيران بعد شهور أو سنين.
عشر سنين على “الانتفاضات العربية” التي عبرت عن هموم ومآسٍ حقيقية، وكانت نتيجة غليان مراجل المجتمعات على نيران الظلم والقهر والفساد والفشل المستدام، ولكن تلك “الانتفاضات الصادقة” عند البسطاء تحولت إلى مؤامرة كبرى عند مَن يستطيعون توجيه دفة الأمور، والتحكم في حركة الجماهير من خلال الإعلام الموجه والنشطاء المأجورين، والحركات الدينية الانتهازية، والنخب الثقافية والسياسية التي أدمنت التبعية للخارج، والارتزاق من تجارة الأوطان.
أطلقوا على هذه “الانتفاضات” اسم “الربيع العربي”؛ أسوة بربيع أوروبا الشرقية، ولكن توالي الأحداث قلب المعادلة، وكشف حقيقة أنه خريف تساقطت فيه الدول، والمجتمعات، والمؤسسات، والقيم، والأخلاق مثل تساقط أوراق الأشجار. يحلو للمستفيدين من هذا الخريف العربي أن يطلقوا عليه ثورات عربية، والموضوعية والدقة تستلزم أن يكتمل الوصف بالقول إنها ثورات عربية فاشلة، ويحلو للمستفيدين من النظم السابقة على الخريف العربي أن يطلقوا عليه مؤامرات دولية وإقليمية، والحقيقة تلزمنا أن نقول إنها مؤامرات ناجحة.
وما بين الفشل والنجاح تتجلى حقيقة الواقع العربي بعد عشر سنين، وهو واقع يقول إن المجتمعات العربية التي انتفضت على حكامها الفاشلين الفاسدين الظالمين قد فشلت بدورها في أن تكون أفضل منهم، أو أكثر نجاحا منهم، أو أقل فسادا من منهم، أو أكثر عدلا منهم، النتيجة أن الفشل اللاحق للخريف العربي أشد قسوة وظلما وفسادا من السابق عليه.
وفي الوقت نفسه، فإن الواقع يقول لنا إن المؤامرة -لمن يؤمن بأن هناك مؤامرة- قد نجحت بجدارة في تدمير أكبر عدد ممكن من الدول العربية كثيفة السكان ذات المواقع الاستراتيجية الأهم، وأهدرت موارد باقي الدول العربية، وأربكتها بمشاكل وتداعيات انهيار جيرانها.
ويبقى السؤال المحوري الوجودي: لماذا حدث هذا؟ لماذا هذا الفشل العام الشامل الذي لم ينجُ منه أحد؟ لماذا لم تحدث مثل هذه الكوارث مع أي منطقة أخرى حاولت شعوبها تغيير واقعها بصورة سلمية أو عنيفة؟
وبالمقارنة مع التجارب الأخرى في أوروبا الشرقية وشرق آسيا وأفريقيا يمكن أن تكون الإجابة في حقيقة واحدة؛ وهي أن “الانتفاضات العربية” كانت حركة بدون رؤية، وفعلا بدون فكرة، وعضلات بدون عقل، وكتلا جماهيرية بدون رأس. وهنا قد يعترض بعض المنتمين للأحزاب التي توظف الدين لتحقيق مكاسب دنيوية مثل تنظيم الإخوان الفاشل، أو بعض المثقفين الليبراليين أو اليساريين، ويدعون أن حركاتهم كانت ضمن قيادة الثورات، وأن حركاتهم وأحزابهم لديها برامج وأفكار.
والحقيقة التي أكدتها التجربة الواقعية أن التيارات السياسية التي تصدرت لقيادة “الانتفاضات العربية” سواء الحركات التي توظف الدين لأغراض سياسية أو التيارات الليبرالية واليسارية جميعها كانت تفتقد الرؤية المستقبلية، وتفتقد المشروع السياسي القادر على رسم خريطة طريق للمجتمع والدولة للخروج من حالة الركود إلى حالة من الحيوية والنهوض والتقدم.
جميع هذه الحركات الدينية والعلمانية كانت تجيد المعارضة، وتتخذها مهنة، ومبررا للوجود، ومصدرا للرزق، وعاشت في حالة المعارضة حتى صارت لا تجيد إلا النقد والاعتراض والتشويه، وإفشال الخصم، ولم تبذل جهداً في تطوير رؤى بديلة، أو خطط ومشاريع مستقبلية، لم تستطع واحدة منها أن تضع برنامجا حقيقيا لمستقبل أوطانها، ولم تستطع واحدة منها أن تكون لديها حكومة ظل، ولم تنجح واحدة منها في صناعة رجال دولة بالمعنى الحقيقي، لذلك حين اقتنص الإخوان حكم مصر جاءوا بأشخاص بدون خبرة ولا تجربة ولا مهارات ولا معرفة حقيقية ووضعوهم في مناصب سياسية عليا، سواء وزراء أو محافظين أو غيرهم.
مأساة العرب في السنين العشر الماضية أن الشعوب كانت ناقمة على أوضاعها، مستعدة للتضحية بالحياة من أجل التغيير، بينما النخب كانت مسترخية هانئة لم تكن مستعدة لقيادة التغيير، لذلك خرجت الشعوب سواء بإرادتها، أو من خلال تحريك مَن يملك خيوط المؤامرة، المهم هنا أن التاريخ يقول إنها خرجت بالملايين، أما السر وراء خروجها فمتروك لحين ظهور حقائق الأمور في المستقبل القريب أو البعيد، ولكن النخب بكل تنويعاتها من الإخوان إلى اليساريين لم يكونوا جاهزين للتغيير، ولم يكونوا مستعدين للقيادة، لذلك انشغلت النخب بالغنائم، والحصول على النصيب الأكبر من الوطن الغنيمة، والثروة الغنيمة، والمناصب الغنيمة، لذلك نلاحظ أن الصراعات بين مَن تصدروا “الانتفاضات” في جميع الدول العربية التي شهدت هذه “الانتفاضات” كانت حول المناصب السياسية والغنائم.
هذا ما حدث في مصر، ونموذجه الأمثل لقاء فيرمونت، الذي كان سببا في وصول الإخوان إلى حكم مصر، وهذا ما حدث في اليمن، وما حدث في سوريا بين تجار المعارضة، وما زال يحدث في تونس وفي ليبيا حتى تاريخ اليوم.