هل فشل المبعوث الأممي؟
قد يبدو الجواب السهل والمباشر لدى كثيرين عن سؤال “هل فشل المبعوث الأممي؟” هو “نعم”، لأنهم مقتنعون بأن كل مبعوث أممي خاص إلى اليمن فشل في أداء مهمته، غير مدركين حدود إمكاناته والقدرات التي يمتلكها لفرض رؤية خاصة، هي في مطلق الأحوال انعكاس لقرارات ورغبات مجلس الأمن المعبرة في الواقع عن توافق الخمسة دائمي العضوية، وهو في المناسبة توافق مرتبط بأوضاع وترتيبات متغيرة باستمرار.
كان المغربي جمال بنعمر المبعوث الخاص الأول حاضراً في بدايات الأزمة اليمنية، واستمر في مهمته من أبريل (نيسان) 2011 حتى أبريل 2015.
أشرف خلال ذلك على استكمال نقل السلطة من الرئيس الراحل علي عبدالله صالح إلى نائبه الرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي.
ثم الإشراف والمشاركة المباشرة في إدارة مؤتمر الحوار من 18 مارس (آذار) 2013 حتى 25 يناير (كانون الثاني) 2014 داخل قاعات فندق موفنبيك الذي انتهت أعماله بإعداد مسودة دستور جديد للبلاد.
حينها، كانت كل المعارضة للرئيس صالح ترى في بنعمر أيقونة التغيير وحاميه وملجأها لتمرير رغبات قياداتها.
وبعد انتهاء أعمال مؤتمر الحوار الوطني منحه الرئيس هادي أعلى وسام في الجمهورية تقديراً لجهوده وإنجازاته.
تحول إعجاب القوى التي كانت تبجل بنعمر إلى توجيه اتهام مباشر له بالتساهل مع جماعة الحوثيين إلى حد التآمر معها للوصول إلى صنعاء وشرعنة وجودها المسلح في العاصمة، والزعم بأنه كان يسعى بقوة لتثبيت الحوثيين شريكاً أساسياً في الحكم بعد وضع الرئيس هادي تحت الإقامة الجبرية في يناير 2015.
في هذا المجال، فإن بنعمر يستطيع الدفاع عن نفسه وتفسير ما حدث، وهو قد فعل ذلك أخيراً.
إثر اندلاع الحرب في مارس 2015، تم إنهاء دور بنعمر وتكليف الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ، في أبريل 2015.
كانت تلك الفترة الأشد توتراً في تاريخ اليمن الحديث، بعد استيلاء جماعة الحوثيين على العاصمة صنعاء، ثم مواصلة مسيرتها إلى عدن.
خلال تلك الفترة، وتحديداً في 25 مارس 2015، طلب الرئيس هادي تدخل المملكة العربية السعودية لإعادته إلى العاصمة صنعاء بعد خروجه منها في نهاية فبراير (شباط) إلى عدن ثم مرة ثانية إلى الرياض بعد توقف لساعات قليلة في مدينة صلالة في سلطنة عمان.
نجحت محاولات ولد الشيخ في عقد عدد من اللقاءات في الكويت وسويسرا، جمعت ما صار معروفاً دولياً بأطراف الصراع اليمني (الحكومة المعترف بها دولياً كطرف وجماعة الحوثي والمؤتمر الشعبي برئاسة الرئيس الراحل علي عبدالله صالح كطرف مقابل)، لكنها لم تسفر عن نتيجة تسهم في خلق مناخات تضع حداً للحرب الأهلية الدائرة، لأن الطرفين لا يمتلكان إرادة وطنية خالصة، واعتبرته جماعة الحوثيين منحازاً فقاطعته.
وهكذا انتهت مهمة الرجل من دون أن يترك أي أثر على المسار السياسي في اليمن على الرغم من نياته الحقيقية وجهوده الحثيثة.
في أبريل 2018، جاء المبعوث الحالي البريطاني مارتن غريفيثس، ورافقته ضجة كبيرة بتصور غريب أنه مبعوث الحكومة البريطانية باعتبارها، كما يزعمون، المسؤولة عن الملف اليمني، وأنها ستدعم نشاطاته بثقلها السياسي الدولي.
مع مرور الوقت، تبخرت تلك التخمينات الساذجة وظل المبعوث الأممي يدور في مسار ترتفع فيه الآمال ثم تهوي إلى الأرض مرتطمة بقرار لم يعد اليمنيون يمتلكون فيه كثيراً من عوامل التأثير على مساراته.
أخيراً، أُعلن أن فترة عمل غريفيثس مبعوثاً خاصاً ستنتهي خلال الشهرين المقبلين بعد ترقيته إلى منصب أرفع في المنظمة الأممية.
القرار جاء بعد فشله في تحقيق تقدم في المسار نحو إنهاء الحرب.
غريفيثس هو الآخر تعرض لما واجه ولد الشيخ، إذ رفض ممثلو جماعة الحوثيين اللقاء به أخيراً، بمبرر أنه لا يحمل أي جديد يستحق النقاش.
فهل جاء المنصب الجديد مكافأة على نجاح لا يلمسه اليمنيون؟ أم سيظل من موقعه الجديد مرتبطاً باليمن مع إضافة بلدان أخرى إلى همومه على الصعيد الدولي؟
وما زالت ترشيحات هوية الوافد الجديد تدور في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.
وفي كل الأحوال، فإن الحل ليس مرتبطاً بجنسية المبعوث الوسيط.
من المعروف أن المبعوث الذي تعينه الأمم المتحدة للإسهام في حل أي قضية دولية، ليس إلا وسيطاً يسعى إلى حلحلة عقد الخلافات والتوفيق بين الخصوم، ولا يمتلك أياً من عناصر القوة التي تمكنه من فرض أي حل يرتئيه مناسباً، ولا يستطيع اتخاذ مواقف تلبي رغبات طرف.
العامل الأساس الذي يبني عليه المبعوث مشروعه لحل الأزمة له مستويات عدة، الأمر الواقع، والإرادة الدولية والإقليمية الحازمة، ثم التوفيق إلى أبعد حد ممكن بين المواقف المتطرفة.
لقد أدى استمرار الحرب أمداً طويلاً إلى إضافة تعقيدات سياسية تجعل من الوهم البحث عن حل مثالي، وهو شأن لا يمكن للمجتمع الدولي الخوض فيه، وزاد الصراع الإقليمي المرتبط بقضية الملف النووي الإيراني من تشابك الأزمات.
ثم إن الأوضاع الإنسانية وانهيار المرافق الخدمية وواقع التفسخ الداخلي وغياب الإجماع الوطني في حدوده الدنيا صارت كلها عوامل تزيد من صعوبة السير في مسارات تقليدية.
هذا لا يعني التخلي، بأي حال من الأحوال، عن التفكير في الجذر التاريخي للأزمة اليمنية، وهو أن أي فئة قد تتمكن لفترة زمنية من الاستفراد بالحكم بالقوة والبطش، لكنها ستواجه بمقاومة رافضة لمشروعها المنغلق والأحادي التوجه.
وهذا سيقود حتماً إلى اضطراب وتناحر مستمرين.
لم تبلغ اليمن في تاريخها القريب تشرذماً واستنساخاً مستداماً لمراكز القوى السياسية والمسلحة وأغلبيتها غير مرتبطة بالدولة، وتديرها طموحات شخصية تبحث عن موطئ قدم، إما للاستمرار في السلطة أو للعودة إليها، لكن نقطة ضعفها المميتة تكمن في ارتباطها المادي بأجندات غير يمنية.. ما يهدد مستقبلها ومستقبل البلاد ويجعل اتخاذ القرار بعيداً عن تحكمها.
من السهل إلقاء الفشل والعجز على هذا المبعوث أو ذاك، لكنه في الواقع تخلٍ عن المسؤوليات الأخلاقية والوطنية.
وصحيح أن المجتمع الدولي الفاعل يستطيع الإسهام في تقريب المسافات، لكنه سيعجز عن إقناع أصحاب المصالح التي تضخمت بسبب الحرب وصارت مرتبطة عضوياً باستمرارها.
*نقلا عن إندبندنت عربية