أميركا ومأرب… والمشروع الإيراني
ليس الإصرار الحوثي على السيطرة على مأرب بكل ما تمثله من أهمية استراتيجية سوى إصرار إيراني على إقامة دولة قابلة للحياة تدور في فلك “الجمهوريّة الإسلامية” في شمال اليمن. دولة، بكل ما في معنى الكلمة لديها حدود طويلة مع المملكة العربية السعودية. الهدف واضح كلّ الوضوح. يتمثّل هذا الهدف في متابعة سياسة هجوميّة تمسّ كل دولة من دول الخليج العربي. يفسّر الهدف مدى أهمية معركة مأرب من جهة وما تعنيه بالنسبة إلى المشروع التوسّعي الإيراني ومستقبله من جهة أخرى.
حقّق الحوثيون “أنصارالله” تقدما في كل المنطقة المحيطة بمدينة مأرب. معظم محافظة مأرب تحت سيطرتهم. قدّموا ضحايا بالآلاف من أجل بلوغ هذا الهدف والوصول يوما إلى المدينة نفسها. لعلّ أهمّ ما كشفه الهجوم المستمرّ على مأرب والهجمات الصاروخية التي استهدف آخرها محطة وقود إلى أي درجة يمكن اعتبار القرار الحوثي قرارا إيرانيا وجزءا من استراتيجية متكاملة. ما كشفه الهجوم أيضا ذلك الاستخفاف الحوثي بأرواح اليمنيين، بما في ذلك صغار السنّ من المراهقين الذين يتعرّضون لعمليّة غسيل دماغ ويموتون من أجل إيران على أرض اليمن…
كان لافتا توجه وفد عُماني إلى صنعاء لعقد لقاءات مع القيادات الحوثيّة في هذا التوقيت بالذات. كان مفترضا بهذا الوفد إنهاء الموضوع المتعلّق بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار وفتح جزئي لمطار صنعاء مع الجانب الإيراني. لكنّ الواضح أن طهران تريد ممارسة لعبة مختلفة تقوم على وضع “أنصارالله” في الواجهة وإظهارهم في مظهر من يمتلك قراره. هذه لعبة لا تنطلي على أحد، خصوصا أن حسن إيرول سفير إيران لدى “أنصارالله” في صنعاء، والضابط في “الحرس الثوري” كان أوضح سابقا لدى الإعلان عن المبادرة السعودية تجاه اليمن رفضه لها. فعل ذلك عبر تغريدة له. كان الموقف السلبي لإيرول من المبادرة السعودية كافيا كي يتراجع الحوثيون. تراجعوا عمليا عن اتفاق تم التوصّل إليه في مسقط مع الجانب السعودي برعاية عُمانية.
تشير زيارة الوفد العُماني لصنعاء إلى تطوّر في الموقف الأميركي الذي يولي أهمّية خاصة لليمن والحرب الدائرة فيها منذ دخول الرئيس جو بايدن البيت الأبيض. أخيرا، بدأ المبعوث الأميركي تيموثي ليندركينغ يستوعب ما على المحكّ في اليمن ولماذا الإصرار الحوثي على تحقيق انتصار في مأرب مستفيدا من ظروف كثيرة. في مقدّم هذه الظروف قدرته على تبديل قواته والإتيان بمقاتلين جدد على العكس من المدافعين عن مأرب الذين أبلوا البلاء الحسن بفضل ضباط معيّنين محترفين في الدفاع عن المدينة وصدّ الهجمات الحوثيّة. كذلك، ساعد في صمود مأرب عاملان مهمّان هما دفاع القبائل الشافعيّة في المنطقة، الخائفة من الحوثيين، عن المدينة ونشاط طيران التحالف العربي الذي أثبت فعاليته. في المقابل، هناك عجز لدى “الشرعيّة” عن الإتيان بقوات جديدة إلى مأرب دفاعا عن المدينة، علما وأنّ في استطاعتها القيام بذلك في حال توفر التخطيط العسكري الاستراتيجي والقرار السياسي الواضح.
لا بدّ من وقف الحرب في اليمن. لا بدّ أيضا من التفكير في مستقبل أفضل لليمنيين بعيدا عن الشعارات التي تستخدم من أجل إطالة الحرب، بما في ذلك شعار تحرير فلسطين الذي يرفعه الحوثيون. هؤلاء لا يريدون أخذ العلم بأنّ ليس لديهم أيّ مشروع سياسي أو اقتصادي أو حضاري من أيّ نوع باستثناء مشروع الموت من أجل إيران.
المهمّ الآن، أن تكون الإدارة الأميركية قادرة على إعادة النظر في موقفها من اليمن واستيعاب أنّ لا فائدة من السعي إلى اتخاذ مواقف تتّسم بالسطحيّة من السعودية. بدل اتخاذ مثل هذه المواقف من المملكة، من الأفضل للإدارة محاولة فهم لماذا كان من واجب التحالف العربي التصدّي للحوثيين ابتداء من آذار – مارس 2015. في النهاية، لو كان الحوثيون، ومن خلفهم إيران، صادقين في لعب دور بناء، لما رفضوا كلّ مبادرات السلام تجاههم، ولما استمروا في إطلاق الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة في اتجاه مرافق سعوديّة.
آن أوان تصرّف الإدارة الأميركية بطريقة مختلفة تأخذ في الاعتبار أن الحوثيين ورقة ضغط إيرانية في مفاوضات فيينا. آن أوان إبلاغهم بطريقة حاسمة أن أميركا لن تسمح بسقوط مأرب وأن توقفها عن دعم التحالف العربي في مرحلة معيّنة كان خطأ كبيرا لا بدّ من إصلاحه.
الأكيد أن الإدارة الأميركية، مثلها مثل أطراف عربيّة أخرى، تواجه مشكلة كبيرة اسمها “الشرعية اليمنية” التي تحتاج إلى إعادة تشكيل. الأكيد أيضا أنّ ثمّة حاجة إلى إفهام الحوثيين والذين يسيّرونهم بأنّ هناك حاجة إلى وضع نهاية لمأساة اليمن. تعذّب اليمنيون طويلا. يكفي ما يعانون منه على كلّ صعيد، خصوصا من أمراض مستعصية وفقر وبؤس وجوع وغياب التعليم… وتشريد. يكفي أيضا ما حلّ بصنعاء وأهلها الطيّبين والأصيلين. كانت صنعاء مدينة عريقة تتسّع لجميع اليمنيين، مدينة يحلو العيش فيها وقد تحوّلت إلى مدينة أقل ما يمكن أن توصف به أنّها بائسة.
إلى أيّ حدّ ستذهب الإدارة الأميركية في تغيير موقفها من اليمن بعدما كانت سارعت إلى رفع الحوثيين عن قائمة الإرهاب، مباشرة بعد دخول جو بايدن البيت الأبيض في كانون الثاني – يناير الماضي؟ ستظلّ مأرب امتحانا للإدارة الأميركية الجديدة ولمبعوثها إلى اليمن. المسألة أبعد من مأرب وسقوط مأرب. المسألة مرتبطة بما إذا كانت الإدارة الأميركية مستعدة للانصياع لإيران أم لا بعد تحوّل مصير مدينة مأرب إلى رمز من رموز النفوذ الإيراني في اليمن.
نعم، سيتوقف الكثير على مراجعة واشنطن لمواقفها السابقة من اليمن مع ما يعنيه ذلك من اعتراف بأنّ سقوط مأرب ستترتّب عليه نتائج في غاية الخطورة ليس على اليمن وحده، بل على الخليج ككلّ أيضا. هذا يعود بشكل خاص إلى رغبة إيرانية في تطويق دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية من كلّ الجهات وتحويل اليمن الشمالي إلى قاعدة صواريخ تابعة لـ”الجمهورية الإسلامية” لا أكثر…