منذ ألف سنة، بل ألفي سنة، ونحن نجمع البلاد هذه ونحاول إعادتها إلى هيئتها الأولى وفشلنا.
فشلنا في العودة الجليلة وما من أحد يريد العودة إلى الخلف والخلف أليق به إلا نحن وقضينا أعمار أجداد جدودنا نلم المدن مدينة مدينة ونقرب بين الجبال ونوائم ونلم شعث القبائل.
ولكن لا فائدة، كلما نجحنا بعثرتنا الجماعات الدينية، فمنهم من يريدها هاشمية وأموية ومنهم عباسية ومنهم فاطمية ومنهم علوية ومنهم هادوية، ولم تتح لنا فرصة اليماني إلا مرة واحدة، وها نحن أفشلناها كما يفشلونا في كل مرة.
باسم العمامة تفركش العامري، وباسم العمامة تفركش الصليحي.
باسم العمامة سقطت مراحل الاحياء اليماني عبر التاريخ.
ينجح الحبشي في إقامة دولته وينجح الفارسي وينجح النجاحي وينجح الأيوبي والمولى الأيوبي “الرسولي” وينجح العثماني والفاطمي والشركسي والجركسي ووحده اليمني فقط من يفشل في بلده..!
منذ فجر الإسلام لم تتوحد اليمن البتة، تمزقت أكثر.
نجحنا مرة واحدة عندما كنا “يمانية” فقط فهدمنا الإمامية الهاشمية في الشمال وطردنا الاستعمار البريطاني من الجنوب وتوحدنا باسم اليمن، اليمن لا غير
كنا نتنافس على اسم اليمن، وجمعناها قطعة قطعة،
مدينة مدينة،
قرية قرية،
شخصية شخصية،
لولا أنهما ابنان لليمن لما تصافحا الزعيم صالح وعلي سالم البيض في ليلة الوحدة، ولو أنهما يتبعان “عمامة” لما توحدت اليمن بعد عشرة قرون، وزد خمسة، من الشتات!
ثم بزغت الجماعات الدينية، حوثي، إصلاحي، ملا، ومرشد!
وأفسدوا ما أصلحته الهامات الكبيرة
مزقونا،
شرذمونا،
بعثرونا،
لكل ريف حكاية من حكاوي الهزائم ولكل قرية ملحمة ولكل بيت نحتاج قرناً من الاحياء لنعيد لُحمة العائلة الواحدة.
فرّخونا، قبيلة قبيلة، جبهة جبهة، كتيبة كتيبة، بندقية بندقية، صفحة صفحة، كطفل وجد أمامه كراسة ومزقها كل مِزق على حدة، فلسنا شمالا وجنوبا، بل للشمال وجهات والجنوب وجهات.
وأصبحنا كعشرة إخوة يلتصقون ببعضهم وكل أخ يريد أن يذهب حيث يشاء وبقى الجميع في مكانهم والدماء تسيل من افخاذهم، هكذا نحن وأكثر من ذلك في الميقات الحالي.
لم تعد صنعاء هي صنعاء، غزاها السل والجرب،
وتعز باكية محاصرة مسفوكة بالتتاري الأخير.
لم تعد مأرب بل مراد والكسارة وعبيدة والجوبة والعبدية وحريب!
لم تعد هي البيضاء بل الفاخر وناطع ونعمان وقانية وردمان!
لم تعد هي شبوة بل بيحان وبلحاف وشقرة.
ولم تعد هي تعز بل الحوبان والحيمة ومخلاف والحجرية والساحل والكدحة والعنين ومقبنة.
والحديدة عادت وهي الموت والفقر والجموع النهابة يأكلون خيرات المعدمين.
فلم تعد هي الحديدة بل الدريهمي والميناء والخوخة وحيس وكيلو 16 ومنظر والمطار وبيت الفقيه وزبيد وهلم جرا وجراء ايضاً.
ولحج لم تعد لحج بل الصبيحة وطور الباحة والعارة.
وهكذا في كل مدينة يتشظى التاريخ باكياً على نفسه من نفسه، ويتشظى المستقبل عارفاً بنفسه ما سيجري لنفسه!
أوجعونا باسم قريش، في الوجهتين، سني شيعي، وباسم فارس في الفكرتين، بخاري وخميني، وباسم الولاية في الحكمين، قرشي وهاشمي، وباسم الله!
الله الذي لا شأن له بما يحدث للبشر من البشر، الله الذي يتعجب مما يرى!
باسم العصملي، وجندرمته، وانكشاريته، وباسم من لا اسم له؛ ضاعت اليمن الكبير!
ضعنا، عائلتي ضاعت، نتوزع بين هذه المدن، وتفرقنا الشوائك والجماعات ولم نلتق بمائدة واحدة إلا أواخر عهد صالح.
آخر سنة من حكم صالح كان اللقاء الأخير، بين العائلات، بين الإخوة، بين المحافظات، وبين الرفاق والأصدقاء في المدن والجهات.
فرقتنا حروبهم، سياساتهم، أفكارهم، ومنعونا عن العيش البسيط الذي عشناه، ولم نرد أكثر منه، فمن يعيد إلى قلوبنا البيوت؟ من؟
للأمهات أولادهن
والأزواج للزوجات
والإخوة للأخوات
والجيرة للجيران.
من يعيد هذه البلاد التي عاشت ثلاثين سنة، بل لنقل ستين سنة، من القلب الواحد والفكر الواحد في ظل دولتين أو دولة واحدة، من يعيد لنا يمن الناس والجميع!!
سوف تنتهي الحرب إلى حرب مختلفة، الأخ يحقد على أخيه، والرفيق على رفيقه، وابن ريمة على ابن مأرب، وابن مأرب يحقد على ابن شبوة، والصنعاني على التعزي، والتعزي على العدني، ستعلق بنا شوائب الأحزاب والجماعات والمعارك والخيانات والسقوط وسنعود كل إلى بلدته وبيته إذا عادت لنا بلداننا وبيوتنا نحمل الأحقاد، نعم!
لن تلتئم أرواحنا مهما فعلنا، سنعيش سنوات الحرب وسنعيش سنوات بعد الحرب ونتمنى لو أنها لم تنته الحرب!
ستتدافع الآراء في مجالس القيل وتمنع واحدية البذخ والنصر، وتشذ المذاهب إلى مذاهب شتى، وستضج اليمن بالخلافات!
خلافات تؤدي إلى عبوات ناسفة.
فلان هدم بيتك : أنت أرشدت الطيران ليهدم بيتي!
أنت أرشدت الحوثي ليعتقلني!
أنت نهبت أرضيتي عندما كنت لا أستطيع حمايته.
وأنت قتلت أخي وابن عمي وصاحبي!
أنت اتهمتني، وأنت شتمتني، ودسيت بي، وأنت فعلت وفعلت وفعلت، أنت تخليت عني، هذا أوان الحساب وأوان العقاب!
لم نكن مجتمعا واحدا إلا مرة واحدة ولن نكون مجتمعا واحدا مرة أخرى، صدقوني!
سيحتفظ الفارسي بفارسيته والتركي بعصملته، والعربي بعروبيته.
لم نتعلم من الخطأ القاتل، ولن تنجب الأرض هذه “صالح” آخر يجمع الشتيتين بل الأشتات، وسنعيد دوامتنا المعهودة.
أرحم لحال اليمني بالحرب وبعد الحرب..!
- من صفحة الكاتب على الفيسبوك