لم يفقد المجتمع الدولي والأمم المتحدة الأمل بعد في إنقاذ الهدنة في اليمن التي لفظت أنفاسها رسميا في الثاني من أكتوبر الجاري، ولكنها ظلت صامدة من ناحية عدم تجدد المواجهات، على الرغم من تصريحات التهديد والوعيد التي أطلقها قادة الميليشيات الحوثية وحملت في ظاهرها العودة الوشيكة لخيار الحرب ولكنها أخفت في حقيقتها خشية الحوثيين من انهيار وقف إطلاق النار والعواقب العسكرية والسياسية الوخيمة التي يمكن أن تترتب على ذلك.
ولا توجد هدنة في العالم بحسب ما أعرف تفتقر لأبسط مقومات بقائها الداخلية مثل الهدنة اليمنية التي تستمر نتيجة الرغبة الإقليمية والدولية الملحة لبقائها والإلحاح الدولي والأممي الشديد على إسكات مدافعها والتوصل إلى تسوية سياسية تنهي الحرب وتقود نحو سلام لا تتوفر حتى الآن أدنى متطلباته.
ولم يخف المبعوث الأممي إلى اليمن والوسطاء الدوليون خلال الأيام الماضية، خيبة أملهم الشديدة نتيجة الفشل في التوصل إلى اتفاق بين الفرقاء اليمنيين لتمديد الهدنة وتوسيع نطاقها، غير أن خيبة الأمل تلك ظلت تدور في إطار دبلوماسية التدليل التي دأب عليها العالم في التعامل مع الحوثيين وهو السبب الذي جعل جميع المسؤولين الدوليين يعبّرون عن إحباطهم جراء فشل جهود تمديد الهدنة من دون الكشف عن الطرف المعرقل الذي تسبب في إجهاض كل الجهود الدولية التي استمرت لأسابيع.
كان المبعوث الأممي في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن قد ألمح إلى أن مساعي تمديد الهدنة باءت بالفشل نتيجة طرح الحوثيين لشروط جديدة وغير ممكنة التنفيذ، في إشارة إلى الطلب الحوثي بتضمين قواته العسكرية والأمنية ضمن كشوفات الرواتب التي ستتكفل بدفعها الحكومة الشرعية والتي وافقت عليها في نسختها الأساسية على مضض وتحت وابل الضغوط الدولية، قبل أن يفتح هذا التنازل شهية الحوثيين على مصراعيها لتقديم المزيد من الاشتراطات التي أقل ما يقال عنها بأنها تعجيزية.
وباعتقادي أن فشل جهود تمديد الهدنة، مسؤولية أممية ودولية في المقام الأول، فلو لم يستشعر الحوثيون رخاوة المجتمع الدولي وضعفه، لما تقدموا بهذا الشرط الذي يبدو ككوميديا سوداء مغلّفة بالكثير من الوقاحة، فلم يسبق في التاريخ أن طلب طرف من عدوه الذي يقاتله منذ ثماني سنوات بالطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية والألغام والمدافع أن يتكفل بدفع رواتب عناصره المسلحة العسكرية والأمنية، في الوقت الذي يتفرغ هو للاستعداد لخوض حرب قادمة أشد عنفا.
والواقع أن وقاحة الحوثيين وجرأتهم في ابتزاز العالم ليست وليدة اليوم بل هي نتاج تاريخ طويل من التخاذل الدولي، فالميليشيات التي تعتقل موظفي السفارة الأميركية والمنظمات الأممية وتفجر منازل خصومها وتعذب وتعدم الصحافيين وتمشي جحافلها في المناسبات الرسمية وغير الرسمية على العلم الأميركي وتهدد باستهداف إمدادات النفط العالمية وتعطيل ممر الملاحة الدولي في البحر الأحمر، مازالت تتعامل كقاتل متسلسل يحظى بالكثير من التدليل، ويسمح له بطرح المزيد من الإملاءات التي عادة ما يتبعها بإطلاق صرخات التهديد والوعيد، دون أن يجد من يقول له: قف كفى عبثا، والعالم لم يعد لديه متسع من الوقت أو هامش الصبر والمناورة للقبول بهذا النوع من الطيش الذي يفتقر للتاريخ السياسي أو منطق العنف القابل للاحتواء والسيطرة، في الوقت الذي تلوح فيه بوادر حرب نووية قادمة في أوكرانيا.
وإذا ما بحثنا في جذور هذا الموقف الدولي الملتبس إزاء الملف اليمني، لا نجد أنه نتاج رغبة مزعومة فحسب في إيقاف أسوأ كارثة إنسانية في العالم كما يردد المسؤولون الأمميون وقادة المنظمات الإنسانية في العالم، ولكن لأن هذا الملف هو في حقيقية الأمر إحدى قطع الشطرنج التي يستمتع قادة العالم بتحريكها لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية وتوجيه رسائل، غير عابئين بنتائج هذه اللعبة المميتة أو ما يمكن أن نسميه بلغة الشطرنج “البيدق المسموم”!
وأحد مآسي الحرب اليمنية وسبب استمرارها، هو ارتباطها العميق بالتحولات الإقليمية والدولية التي تتسارع ويشتعل ضرامها، فهي ملف مهم في أجندة البيت الأبيض سواء من كونها ملفا يمكن ابتزاز الحلفاء به تارة من خلال إثارة تداعياته الإنسانية وأخرى عبر التلويح بوقف بيع الأسلحة للحلفاء الذين يخوضون حربا بالنيابة عن العالم أجمع في مواجهة المشروع الإيراني.
والملف اليمني بات عنوانا رئيسيا في أيّ مباحثات أو اتصالات بين دول التحالف العربي من جهة والإدارة الأميركية من جهة أخرى، كما يكتسب هذا الملف أهمية إضافية من خلال ارتباطه بالصراع بين النظام الإيراني والعالم على خلفية محاصرة الطموح النووي لطهران وتعثر المباحثات معها حول الاتفاق النووي، حيث تشهر إيران ورقة الحوثيين في وجه العالم، تارة عبر التلويح باستهداف إمدادات الطاقة وأخرى من خلال الإيعاز بتحريك الحوثيين لإقفال ممر الملاحة الدولي في البحر الأحمر في وجه التجارة الدولية، وعلى وقع هذه المناورات تبدي إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن رغبتها مرارا في تجميد ملف الحرب في اليمن وتهدئته حتى يتسنى لها تقديم تنازلات أقل كلفة لتمرير الاتفاق النووي.
وإذا ما تأملنا مليا في التداعيات الدولية الأخيرة، نجد أن الملف اليمني حاضر بقوة في مجريات حرب أوكرانيا وكواليسها السياسية، مع بروز دول فاعلة في العالم ترغب باستمرار إرباك واشنطن في المنطقة العربية عبر ملفات مشتعلة عديدة من بينها اليمن، فيما يبدو جليا أن التوتر في العلاقة بين الرياض وواشنطن على خلفية قرار خفض إنتاج الطاقة سيلقي بظلاله الثقيلة على الملف اليمني، وسيحيي عوامل الابتزاز الشهيرة التي ظلت واشنطن تتعامل بها أثناء تعاطيها مع حرب اليمن، تارة بشطب الحوثيين من قائمة الإرهاب وأخرى عبر غض الطرف عن التصعيد الحوثي وثالثة من خلال التلويح بوقف التعاون العسكري مع التحالف العربي وقائمة الابتزاز الأميركي ما تزال مفتوحة على مصراعيها والأيام حبلى بكشف المزيد.