الوحدة من مأرب إلى عدن وتهامة.. ما هي قواها، ومع مَنْ تتوحد؟
اليوم ذكرى قيام الوحدة اليمنية كتاريخ، قيامها كدولة، أما كشعب فاليمنيون كما العرب، يُفترض أنهم دولة واحدة بلغة واحدة وتاريخ مشترك وجغرافيا، وهذه الدولة انهارت ثلاث مرات: أولاها في حرب 1994، وثانيها في 2012، أما الثالثة ففي 2014 حين أخذ الحوثي مدى سقوطها إلى كسر العظم وطحنه وذره ساحقاً كل ما بقي من مقومات هشّة لها.
واليوم فإن الذين يتذكرون الوحدة، هم أطراف لم يعد أحدٌ منهم يمثل دولتها لا خطاباً ولا مشروعاً ولا حتى أحلاماً.. هي عندنا جميعاً مجرد “مناسبة” كيدية ضد الأطراف الأخرى.. وهذا يعني أن آخر ما نمثله ونسعى له ونؤمن به هو هذه الوحدة التي نتغنى بها.
وحتى جنوباً، حيث لايزال الحديثُ ضاجاً وصاخباً ضد “وحدة 94” فإنهم ضد وحدة لم يعد لها وجود.. فالذين ينتقدون الجنوب على ما يسمونه انفصاليته، هم أنفسهم هربوا من “صنعاء” ولم يعودوا يمثلون لا وحدتها ولا انفصالها.
ولولا أن الجنوب “تحرّر” من دولة هذه العاصمة لما وجدوا موطئ قدم لهم فيه.
والذين يؤيدون الجنوب ويقولون إنهم يتمثلون أحلامه في استعادة دولته، ويعيشون جدلاً صاخباً ضد ما يسمونها “اليمننة”، هم موحدون جداً مع التحالف العربي الذي لن يكافح انفصال صنعاء ويسعى لاستعادتها مهما كلف من ثمن، في سياق صراعه مع إيران التي تريد الاستفادة من فصل صنعاء شمالاً ضد السعودية، أو صراعه مع تركيا التي تحوم حول الجنوب ومحيط سواحله وجزره في سياق صراع تجارتها في أعالي البحار.
تاريخ معلق ومخدّر موضعي
كل هذا يعني أن الوحدة اليوم هي تاريخ معلق.. تاريخ لمن يتمسّكون بها أو يرفضونها، أما واقعاً، فهي ليست أولوية، فما قبلها، أصلاً، معرّض للموت وهي الدولة والشعب والأرض. هناك السلم العام الذي قد تتحول دعوى “الوحدة” إلى مجرد لافتة جديدة لصراعات الأطراف ضده.
ما يحتاجه اليمنيون، اليوم هو أقدم وأسبق من “الوحدة”، وهو الاعتراف بالحال، بالتحديات.. بالفرص.
وما لم فإن ذكرى الوحدة هي مجرد محطة مقامرة تسترضي العواطف التي تتجنب المكاشفة لأنها لاتريد حلاً.. بل تريد “خداعاً موضعياً” كالمخدر الموضعي الذي يسبق أي عملية يمكن القيام بها بعد ذلك.
استعادة الوحدة.. شمالاً
لاستمرار الحديث عن الوحدة فإن الأطراف اليمنية كلها التي تقاتل الحوثي، أو التي شردها الحوثي ورفض وجودها في صنعاء، بحاجة لاستعادة صنعاء. وإذا هم أنفسهم بحاجة للسؤال عن مدى “واحديتهم”.
يستخدم المؤتمر والإصلاح خطاب الوحدة، لمزيد من تغذية العداوة بين الشمال والجنوب، من حيث لايشعرون. أو لمقتضى مصالحهم هم كأحزاب تاريخاً وقيادات. أو لعجز وكسل عقولهم وتكلس مقدراتهم ومشاريعهم.
من عدن إلى صنعاء.. أين هي اليمن؟
لم تعد عدن هي المعنية بالحديث لا عن الوحدة ولا عن الانفصال.
عدن اليوم، عادت لكي تكون أم اليمنيين وشقيقة الرياض وحليفة أبوظبي.. خلافاً لما صارت إليه صنعاء.
ومثل عدن، هي تهامة.. هي سقطرى.. هي تعز وحضرموت والضالع ولحج وغيرها.
والحديث عن الوحدة سيفرض السؤال الكبير: ما هي رؤية هذه المناطق لبعضها البعض.. ماذا تقدم لبعضها كي تقبل معاً مشروع الوحدة كحاضر لا كماضٍ.
ماذا تعنى الوحدة لهم لكي تكون علاجاً للحال السيئ الذي نعانيه جميعاً في هذه المناطق وكل مناطق ما كانت تُعرف باسم “الجمهورية اليمنية”. أم أن الوحدة مجرد مورد إضافي للصراعات خدمة لمراكز القوى الموحدة جداً مع بعضها مهما تحاربت وتصارعت. فالمصلحة بينها مشتركة، حرباً وسلماً.
أما صنعاء فقد فرض الحوثي عليها الانفصال فرضاً عملياً.
انفصالاً على دين اليمن ومصالحه وهويته وقواه وعلاقاته.
بل فصل صنعاء عن صنعاء نفسها، لصالح مشروع مسخ عدواني ضد كل ما يمت للجمهورية اليمنية وللشمال والجنوب بصلة.
مأرب.. ضحية أخرى
ولاقيمة للحديث عن الوحدة، ما لم نعد النقاش حول “مأرب”.. أتحدث عن المدينة لا عن المحافظة، المدينة التي تحولت موطناً لأهم تحالف في تحالفات دولة حرب 94، الإصلاح و”العسكر”، وهو التحالف الذي أعاد تسمية نفسه بـ”الجيش الوطني”.. وما فاته بعد تلك الحرب جنوباً يسعى لتحقيقه عبر هذه اللافتة.
وهذا هدف يتلفع بـ”الوحدة” لكن حقيقته هي الانفصال بالتمام والكمال.
وانفصالية الدولة في مدينة مأرب يتضح من إصرارها على ادعاء تمثيل كل اليمن واعتبار كل ما دونها هو عدوان.
مع أنها الوحيدة المنفصلة مالياً عن الشرعية، وتعتقل كل مؤتمري لايواليها، وضد الحراك جنوبياً وتهامياً.
تحلل لنفسها كل ما ترفضه لغيرها.. هي من تقرر ما هي سيادة لسقطرى والمكلا.. وما هو تحالف لعدن ولحج، وما هي الوطنية للمقاومات والسلفيين مثلاً.
تمارس دولة “الجيش الوطني” في مأرب كل الأساليب التي مزّقت السلم وهشّمت الوحدة بعد حرب 94.
وجازماً أقول إنه لولا الجهد الجبار للشيخ سلطان العرادة وللقبيلة الماربية التي تبقي مأرب ومصالحها حاضرة، لكانت بقايا نظام دولة 94 تفعل بمأرب ما قد فعلته بالجنوب، من سطو على الأراضي وعبث بالثروات وتحكُّم بمصائر الناس.
وبغض النظر عن هذه الممارسات.
قد يمكن القبول بكل الممارسات الخاطئة، وإعادتها إلى ظروف نشأة الدولة هذه هناك.. وتركها للزمن لمعالجتها، فهي سلطة مؤقتة تنتظر العودة إلى صنعاء، ولكن فيما يخص الوحدة لايمكن اعتبار “مأرب” إلا انفصالاً، ما لم تقتنع أطراف سلطتها باسم الجمهورية اليمنية أن ترى دولتها على حقيقتها وتتحدث بواقعها، بكونها دولة لطرف واحد لاثاني له أبداً.
وهذا اسمه تفرد وليس توحداً.
وحدانية مش وحدة.
أنت فيه وحدك “حددك”.
بعدها يمكن الحديث عن ضرورة إحياء الوحدة عبر التفاهمات بين “مأرب” وغيرها من مراكز الثقل في يمن ما بعد الحوثي.
قوى الـ2 من ديسمبر
بعد استشهاد الزعيم “علي عبدالله صالح”، وهو الذي أقام هذه الوحدة شراكة مع الزعيم “علي سالم البيض”، برزت قوة جديدة على مسرح الحياة الوطنية، قوة يمثلها ويقودها “طارق محمد عبدالله صالح” ومجموعته العسكرية التي تمثل إرثاً وحدوياً لايمكن القول اليوم إن له توجهات مختلفة عن الوجه الآخر لهذا الإرث الموجود في مأرب.. ولكنه لايطابقها على الأقل.. ولايزال يتخلق ويتشكل في ظروف نقيضة للتفرد باسم “الجيش الوطني”.
كان من اللافت أن هذا الاتجاه بدأ مختلفاً من تحالفه الأول.. في عدن.
فـ”عدن” المنفصلة إلى حد كبير عن مأرب، والمتحدة معها بعد ذلك في الموقف من انفصال “صنعاء” عنهما معاً.. استقبلت “طارق”، وكان قائد مشروعها الأول “عيدروس الزبيدي”، هو أول من أعلن توحده مع الهدف الذي التزم به “طارق” وهو “استعادة صنعاء” وترك خيارات الناس للتفاوض بينهم بعد ذلك.
كان يمكن الحديث عن وحدة ثلاثية بين مأرب وعدن في دعم جهود القوة الجديدة شمالاً.. غير أن معنى الوحدة هنا استعصى على “مأرب” وعمّقت الشرعية استعصاءه.
وإذا يمكن القول إن “عدن والضالع ولحج” تحديداً توحدت مع أبناء الثاني من ديسمبر بشروط الواقع.
لاقوات شمالية في الجنوب، فالعدو هناك منفصل في قلب الشمال.
والأمان الشعبي يحتاج دولة عصية على تغول أي مركز ضماً وإلحاقاً.
وحدتنا هي في هدف استعادة صنعاء وبعدها نبدأ حوار المصالح الكبرى بضمانة إخواننا في أبوظبي والرياض، وبما يحقق مصالح شعبنا في الشمال والجنوب والشرق والغرب.
تهامة.. الاختبار الجديد للجميع
وفي الساحل الغربي اليوم، يختبر الزمن قوى الشمال والجنوب في أرض تهامة وبين قواتها.. هل فعلاً يدركون فرصة وإمكانية ومتطلبات توسيع أفق الأهداف الوطنية مع المنطقة برمتها، من الرياض إلى أبوظبي، مروراً بتهامة وتعز وحجة ولحج وعدن والضالع وأبين وحضرموت ومأرب وسقطرى.
أم هم نسخٌ من مأرب.. أو من شرعية ترى نفسها هي كل شيء ثم لاتقوم بشيء.
كان يمكن القول إن مشروع الدولة الاتحادية، هو حل شرعوي يقلل مخاطر العداوة للمركز ويعيد إنتاج تحالفات محلية لتجديد الوحدة وإعادة إنتاج مشروعها، غير أن هذا المشروع هو مشروع قدمه مركز جديد، لتسهيل سيطرته هو كحقوق والتخلي مقابل ذلك عن الواجبات.
فالاتحادية الشرعية كفكرة وكخطاب، هي عدوة للمجتمعات المحلية.. مرض جديد يعمق وجع “الجنوب” بالسطحية في التعامل ويحول الأقاليم عداوة ضد صنعاء.
أو يقزّم الجنوب، من شريك لمنطقته قائدٍ لليمن بكلها.. إلى مجرد طرف مرتعش قلق يعبث بأهم وأعظم إنجازاته.. التحرير.
إننا بحاجة لمشروع يمنع أي انتهاك جديد، سواء لصنعاء أو لصعدة أو لتهامة ولحج وكل منطقة يمنية.
مشروع يقنع المركزيات التاريخية كلها في أبين أو في عمران، أن اليمن يصبح أقوى بدون هذه المركزية.
اليمن بلد تعددي، مذهبياً ومناطقياً واجتماعياً، والأولوية فيه لكل منطقة تعزز هذا التنوع، وأعتقد أنه لا منطقة أكثر من تهامة وحضرموت يمكن اختبار الشعارات فيها.. لأنها تقبل بالتعدد وتتعايش معه، تحتفظ بهويتها وتحترم هويات الآخرين.
قوى الساحل.. يمن جديد قد يتحقق
يمكن لنا أن نرفع سقف الآمال بقوانا في الساحل.. تهامية وجنوبية ووطنية، بالنظر إلى أن ظروفها لاتتيح لها تكرار “أحادية مأرب”، ولا “سطحية الشرعية”، ولا “مخاوف الجنوب”..
وهذا الساحل ممتد من سقطرى إلى ميدي، وهو ينظر إلى “صنعاء” كهدف مشترك، وبرعاية قومية عربية، ودعم عالمي.
غير أن هذه الآمال، لاتزال في بدايتها.. وحقٌ لها علينا أن نمنحها وقتها، وواجبنا التسديد والمقاربة، حلماً وأملاً..
لأنه ما لم تكن قوى “الساحل” هذه عند مستوى التحدي، فسيصبحون مثلهم مثل الإصلاحيين والحوثيين، أعداء للمنطقة برمتها، ولبلادنا أولاً.
ليسوا سواءً، الإصلاح والحوثي، لكنهم يعملون بطريقة واحدة، حلفاء الهياج الثوري ضد كل هذه التحالفات الإقليمية الوطنية، يعمقون جراح ما يدعون مداواته.
ولايعني أننا ندعم أى حروب ضد الإصلاح، ولا ضد مأرب.. ولا في عدن بين الأطراف المتنازعة هناك.. فالإصلاح حزب يمني، لانريد سوى الاشتراط عليه مغادرة وعي “94” ضد الجنوب ومغادرة وعي “2011” الذي تحالف مع الحوثي ونقل العداوة لإرث الرئيس علي عبدالله صالح ولايزال للأسف.. وقبل ذلك وبعده احترام “مأرب” وترك “تعز” تعبّر عن ذاتها المناطقية بدلاً من استمرار استخدامها في خدمة “ذاته ومصالحه كحزب”.
إن هذا الاستخدام لـ”تعز”، آذى الوحدة كثيراً، إذ عزز الكراهية ضدها في كل مناطق الجمهورية اليمنية، مع أنه لولا صمودها ضد الحوثي، وللإصلاح فضل كبير في ذلك، لكان الشمال اليوم “حوثياً” يدعي تمثيل “الجمهورية العربية اليمنية” محققاً الانفصال الكامل.
تجديد الوحدة.. بتجديد الوعي
وهذا هو، إذاً، جوهر الاختبار لنا جميعاً بمدى إدراكنا للحاضر الذي نعيشه، وللأحلام التي تمثلها لنا الوحدة، هل هي هي دولة تعددية تحترم أطرافها بعضها البعض، أكانت حزبية أم مناطقية أم مذهبية أم اقتصادية.. أم هي مجرد لافتة نخبئ تحتها “انفصالنا الكامل” لحماية مصالحنا والإضرار بـ”اليمن” أرضاً وإنساناً..