مقالات

مواقد الغضب والوعي

 


 


من رحم الحرب وويلاتها خرجت كثير من الشعوب المنكسرة إلى رحاب الدولة المستقرة، والتاريخ سجل الكثير من تلك النماذج.


 


ألمانيا واليابان مثالان جليان لهذه التجارب المريرة والنهوض السريع بعد الانكسار.


 


والحرب في اليمن لا شك أنها تصنع وعياً جمعياً بفعل مواقد الغضب وفشل مشاريع الجماعات الدينية.


 


لقد صهرت الحرب الشباب قبل الكبار وعلمته فنون العراك مع الحياة وأبجديات التعايش مع الصعوبات، فهي كل يوم تبصره بخطورة خلط الدين بالسياسة وأساليب بيع الوهم باسم الدين وتجارة الحرب، وبشاعة السياسيين حينما يستثمرون السياسة لمصالحهم وانتهازية الأحزاب التي لا تعبر عن طموحات الناس ولا تجرؤ على الكلام والفعل.


 


إن كل هذه الصعوبات التي أنبتتها الحرب قد خلقت التحدي والرغبة في التغيير وسلطت الضوء على دهاليز السياسة وخبايا الأجندات وصراع الإقليم، وبصرت اليمنيين بأهمية موقعهم الجيوسياسي وكيفية استثماره لصالح الرفاه والبناء.


 


صحيح أن ذلك سيكون بعيدا زمنيا لكنه يوما سيكون.


 


صحيح أن خسائر اليمنيين ليس لها حدود اقتصادا وجروحا ودماءً، لكن أهم تلك الخسارات على الإطلاق هو اغتيال الشخصية المعنوية لليمن من قبل جماعتي الحوثي والإخوان، وهذا جرم لا يعادله جرم مما ارتكبوه على كثرته.


 


كانت صورة اليمني تتمثل بأنه محترف العمل، صدوق المعاملة، سفير إيجابي في أي وطن يذهب إليه، فتح البلدان بسلوكه وتعامله.. فأصبحت صورته اليوم أنه ذلك الإرهابي او محترف الحرب.


 


جرائم مليشيات الحوثي- إخوانج المادية كثيرة لكن جريمتهم المعنوية عميقة وسنحتاج عقودا حتى نعيد للشخصية اليمنية اعتبارها، في بلد كان يسمى اليمن السعيد لرصيده العملي الباذخ الذي يتناسب مع جغرافيته الفريدة التي هي أحد هباته ومعادلته الوازنة في قلب المنطقة والعالم.


 


ولذلك فإن مهمة الجيل القادم بعد الخلاص من جماعات الدين ليست سهلة في إعادة الاعتبار لشعب ازيحت هويته، وزرعت هويات لا تمثله وليست من نبت أرضه، وتنازعته ومزقته وقدمته للعالم بصورة مشوهة.


 


إن اليمن بما تملكه من جغرافيا سياسية وتسامح ومرونة، حكمته امرأتان في زمنه الغابر دون غرابة ودون امتعاض، وقدمتا أنموذجا للحرية والتسامح والعمل، وتعاقبت عليه ممالك مختلفة وأفكار متنوعة دون شطط ودونما إكراه، وذابت داخله كل الأديان بسلاسة، وهضمت داخله كل العادات والأعراف التي وفدت إليه، وتم النسج منها ذلك الثراء في الثقافة والسلوك وعادات جديدة في الفن والمأكل والمشرب وعموم تفاصيل الحياة، فكان ذلك التنوع الذي نلحظه عندما نتجول في مدن اليمن فنجد في حضرموت ما لم نجده في صنعاء، وفي تعز وعدن ما لم نجده في مأرب وشبوة والمهرة… وهكذا دواليك.


 


شعب يعشق الحياة ويتفانى من أجلها، ينحت في الصخر ويؤرق ألقاً وبهجة منقطعة النظير.


 


لن يكون الخلاص لاستعادة الشخصية اليمنية في ذاكرة الشعوب إلا بمواقد الغضب الهادر والوعي الجمعي الذي يتشكل كل يوم وعليه الرهان في صناعة ما عجز عنه الجيل الحاضر، جيل الحروب والنكسات، والقيادة الضعيفة الحالية أفضل مثال لهذا الجيل الضارب في الفساد والنكسات.


 


لذا فإن أمام الأجيال القادمة مهام صعبة لاستعادة سمعة اليمن مع جغرافيته الممزقة من الجماعات، والفرص ليست معدومة، وكل الشعوب عندما ملكت الوعي والرؤية والقيادة اتسعت لديها فرص النماء من الصفر أحيانا.


 


إن اتساع الرؤية والوعي المدني نصف الحل، وهو ما يجب أن نبثه من أمل في ظل زحمة الإحباط واليأس الذي يكسو البلاد ويلبدها بكل الغيوم ويغرقها في الاستسلام لقدرها.


 


ومن الملاحظ أن هناك جيلا أذكى مما نظن وأقوى لن تطحنه الصعوبات ولا تغريه وتستقطبه ماكينة القطيع وقصص الحرب.


 


تعلم الكثير، وعليه فقط التعويل والأمل دون غيره من مخاتلات الحلول الدولية والإقليمية التي تؤسس لوقائع على الأرض اليمنية بناءً على هيمنة المنتصر والأقوى سلاحاً وفتكاً، وهم لا شك عصابات الدين وليسوا الشعب وإرادته التي وإن طال غيابها ستتحقق يوماً ما.


 


وغداً لناظره قريب..


 


 

زر الذهاب إلى الأعلى