تعرف على «الثقوب السود» التي تنهك اقتصاد لبنان
لبنان يخسر 10 مليارات دولار سنوياً بسبب الفساد والتهريب والتهرب الضريبي
تحول تاريخ 17 أكتوبر (تشرين الأول) إلى محطة فاصلة في تاريخ لبنان الحديث. ويتطلع اللبنانيون لأن تؤسس الدينامية الجديدة غير المسبوقة، في حجمها وتمددها وعبورها للمحظورات الطائفية والفئوية السائدة، لقيام شراكة مجتمعية حقيقية متكاملة في صناعة القرار وإدارة الدولة، وأن تتشارك في صياغة خطط إنقاذية متدرجة، بعدما دخلت البلاد في سلسلة انهيارات جدية، يقودها الوضع المالي المترهل، وتتمدد إلى الاقتصاد والنقد وهيكليات المؤسسات العامة المتخمة العابقة بالتسيب والمحسوبية والفساد، التي ترمي بأثقالها على القطاع الخاص الذي يستنفد آخر مقومات الصمود بعد نحو عقد كامل من الانكماش المكلف والاستنزاف المتواصل للاحتياطات.
وقد يبدو الإصلاح البنيوي سياسياً واقتصادياً مهمة شبه مستحيلة، في ظل تراكمات المشكلات وتفاقمها على مدى ثلاثة عقود بعد الحرب الأهلية المدمرة، لكن أهل الرأي والاختصاص يجمعون على أن البلاد ليست مفلسة، بل منهوبة. فهي تتعرض لخسارة نحو 10 مليارات دولار سنوياً بسبب الفساد والتهريب والتهرب الضريبي. وما دامت الاحتجاجات والتقارير الدولية قد كشفت مستوى القعر الذي بلغه الاقتصاد الوطني، والخفايا العميقة للتعثر، فلا أعذار تمنع توصيف المعالجات الصائبة والموضوعية للخروج من ظلمة نفق الإدارة المترهلة إلى ضوء بناء الثقة المتجددة.
تنطلق المرحلة الجديدة من البعد المالي، حسب المحللين والاختصاصيين الذين يعول على تفعيل مساهمتهم في الإنقاذ المنشود، ومن عدم إنكار مخاطر الثقوب السود في أرضية مهترئة وتصنيف سيادي متدنٍ عند الدرجة «سي»، جراء ضغط دخول النمو في أداء سلبي مرتقب هذا العام لا يجمله قربه من الصفر، بينما يقارب الدين العام المعلن 87 مليار دولار، مع عزل مستحقات وديون لصالح مؤسسات عامة وخاصة قد تدفع بالرقم صعوداً إلى 95 مليار دولار، أي ما يماثل 160 في المائة من الناتج المحلي، وربما أكثر.
ويقارب العجز الحقيقي في الموازنة 10 في المائة، رغم المعونات الطارئة التي يقدمها البنك المركزي في سداد استحقاق سندات بالليرة وبالدولار، وفوائد لسندات قائمة بالعملتين. أيضاً العجز قياسي في ميزان المدفوعات، ويتجاوز رقمياً 5 مليارات دولار، رغم الضم والاحتساب النظري لجزء من محفظة البنك المركزي من سندات «اليوروبوندز» لهذا العام، التي تناهز 3 مليارات دولار. ومنشأ العجز اختلال كبير في الميزان التجاري، وصل إلى 17 مليار دولار، مقابل ضمور حاد في تدفقات الرساميل والودائع الخارجية، وتقلص جزئي في تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين، من نحو 8 إلى 7 مليارات دولار سنوياً.
ومن الملح، وفقاً للخبراء، امتلاك شجاعة إعادة تقييم جدوى الاستمرار في سياسة الاستقرار النقدي، ومدى نجاعتها، بتكلفتها العالية في سوق الفوائد، كمحفز للنمو، في ظل ضمور الثقة وانكماش الاقتصاد. كذلك، تضاؤل دورها في حماية الاستقرار الاجتماعي، في ظل سيطرة التسعير الموازي للدولار على التعاملات وأسعار الاستهلاك، حيث زاد الغلاء فعلياً بنسب تراوح بين 15 و30 في المائة، وتقلصت فرص العمل في كل قطاعات الإنتاج، مخلفة زيادة مزدوجة في نسبة البطالة الفعلية فوق معدل 35 في المائة، معززة باقتطاعات من الأجور والتقديمات في أغلب المؤسسات والشركات.
وربما تدنت الاحتياطات السائلة في البنك المركزي إلى نحو 30 مليار دولار، وهي مرشحة لمزيد، في ظل تحميل المركزي لجزء من مصاريف الدولة وديونها، وفي ضوء التزامه (المركزي) بتأمين التغطية بالعملات الصعبة لمستوردات السلع الأساسية، من قمح ومحروقات وأدوية وسواها من سلع ضرورية. وهي تغطية ستكلف تخصيص نحو 6 مليارات دولار سنوياً، بعدما كاد النقص فيها يحولها إلى أزمات قائمة بذاتها، بينما أصبح نحو 14 مليار دولار من المستوردات خاضعاً لتقلبات أسواق الصرف الموازية، التي زادت بين 20 و30 في المائة عن السعر المعتمد في سوق القطع.
وتبرز في السياق مشكلة التعرُّض الكبير للديون السياديّة من قِبَل القطاع المصرفي ككلّ. فحجم الاستثمار في الأدوات الماليّة الحكوميّة والتوظيفات لدى مصرف لبنان تشكِّل نحو 68.5 في المائة من إجمالي موجودات المصارف، أي ما يوازي أكثر من 8 أضعاف رأسمالها الأساسي، البالغ نحو 19 مليار دولار، بينما تزيد وتيرة تقلص قدرات الجهاز المصرفي على استقطاب رساميل وودائع خارجية جديدة، وينكمش التسليف لقطاعات الإنتاج بنسب متدرجة صعوداً، فاقت 7 في المائة، إضافة إلى شح السيولة بالعملات، مقابل تمركز نحو 75 في المائة من الودائع المصرفية بالدولار، من إجمالي يناهز 170 مليار دولار.
الخطوة الأولى الأكثر إلحاحاً، وفقاً لقناعة الخبراء وانسجاماً مع توجهات المؤسسات المالية الدولية المعول عليها في مد يد العون، هي تشكيل حكومة سريعاً تنسجم مع تطلعات جميع اللبنانيين. ومن ثم، التركيز على عوامل الاستقرار والنمو من خلال اتخاذ إجراءات محدّدة زمنياً لمعالجة أي اختلالات خارجية، وتحسين فرص النمو من خلال الاستثمارات وخلق فرص العمل، والتصدي للتفاوتات الاجتماعية، ومكافحة الفساد، وضمان حكومة شفافة خاضعة للمساءلة. وفي التجربة، يحوز القطاع المالي المحلي خبرات مشهودة اكتسبها في محطات مفصلية سابقة في إدارة التعامل، مع ظروف طارئة ومفاجئة.