سد النهضة: الخلافات بين مصر وإثيوبيا تزداد حدة
بي بي سي
لا تزال المفاوضات بين مصر وإثيوبيا تحافظ على غلاف من الدبلوماسية الرصينة، لكنْ في كلمات مُمثلي البلدين هناك حدة بات من الصعب إخفاؤها.
وفي الأيام الأخيرة، عقد عن بُعد اجتماع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لبحث مسألة سد النهضة الإثيوبي الذي يجري تشييده على مجرى النيل الأزرق.
وفي ظل تدابير التباعد الاجتماعي بين المشاركين اتضح بجلاء حجم الهوة الدبلوماسية. تلك الهوة التي تهدد برفع درجة التعصب الوطني وانعدام الثقة بين كل من الشعبين المصري والإثيوبي.
وفي مصر يُنظَر إلى السد القائم على رافد النيل الأساسي بوصفه تهديدا بالتحكم في تدفق المياه التي تعتمد عليها كل مناحي الحياة في مصر تقريبا.
أما في إثيوبيا، فيُنظر إلى ذات السد، حال تشغيله بكامل طاقته، بوصفه المحطة الأكبر أفريقيا لتوليد الكهرباء وتوفيرها لـ 65 مليون إثيوبي محرومين منها.
وقد بدأت عملية بناء السد في 2011 وأوشكت على الاكتمال.
وفي اجتماع الأمم المتحدة قال ممثِّلا البلدين إن تهديدًا يحدق بوجود وطنيهما.
وفي كلمته بالاجتماع، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري: “تهديد وجودي بات يحدق بشريان الحياة الوحيد الذي يعيش عليه أكثر من مئة مليون مصري”.
في المقابل، استخدم سفير إثيوبيا لدى الأمم المتحدة تاي أسقي سيلاسي، لغة مشابهة عندما قال: “إن الانتفاع بمواردنا المائية في إثيوبيا ليس اختيارا، إنما ضرورة وجودية”.
موعد ملء السد
قد يوحي الخطاب المتبادل على مدى نحو عشر سنوات بأن كلتا الدولتين لم تتوافقا بشأن كثير من النقاط، والواقع أن نقاطا جوهرية لم يتم التوافق بشأنها بعد، وهي تلك المتعلقة بـموعد ملء السد وبـكمية المياه التي سيمررّها هذا السد.
سنوات من محادثات ثنائية ومتعددة الأطراف، ولجان خبراء، وإعلان مبادئ بين مصر وإثيوبيا والسودان، الدولة الثالثة المعنية – كل هذا لم يسفر عن حلّ لتلك النقاط الجوهرية.
والآن وصلنا إلى نقطة تعلن فيها إثيوبيا الإقدام أحاديّ الجانب على ملء السد في الأسابيع القليلة المقبلة بالتزامن مع موسم الأمطار. في عملية يُتوقع لها أن تستغرق نحو سبع سنوات.
وتَعتبر إثيوبيا بناءَ السد والبدء في ملئه شيئا واحدا. ويقول المفاوض الإثيوبي زيريهون أبيبي لبي بي سي: “المصريون حاولوا تشويش المجتمع الدولي” عبر القول إن بناء سد وعملية ملئه شيئان مختلفان.
ويؤكد أبيبي أن إعلان المبادئ المبرَم في 2015 يسمح لإثيوبيا بالمضيّ قُدما. لكن مصر لا ترى الأمر على هذا النحو.
بعد فشل الولايات المتحدة والبنك الدولي في إقناع إثيوبيا بتوقيع اتفاق مع مصر في فبراير/شباط الماضي، أعلن الاتحاد الأفريقي أنه سيحاول التوصل إلى حل.
وتشير كلمات مصر على لسان وزير خارجيتها إلى أن هناك حاجةً عاجلة إلى اتفاق.
معاهدات من الحقبة الاستعمارية
حذر وزير الخارجية المصري من “تصاعد حدة التوترات على نحو قد يخلق أزمات ويشعل صراعات من شأنها زعزعة الاستقرار في منطقة مضطربة بالأساس حال إقدامٍ أحاديّ الجانب على ملء وتشغيل هذا السد دون توافق يتضمن الاحتياطات الضرورية لحماية دول المصبّ”.
إثيوبيا، من جهتها تقول إنها ترغب في التفاوض تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، بدلا من الأمم المتحدة، وتتهم مصر بـ”التعنّت والإصرار على حقوق تاريخية ووضْعٍ راهن”.
هذه الحقوق التاريخية، التي طالما أعربت مصر عن تخوّفها من التعدي عليها، تعود إلى عام 1929 على الأقرب، عندما أقرّت الحكومة البريطانية “حق مصر الطبيعي والتاريخي في مياه النيل”. كما تمنح هذه المعاهدات مصر حق النقض (فيتو) على أي مشروع يُقام على مجرى النيل.
ثم كان عام 1959، عندما أبرمت مصر والسودان اتفاقا حول تقاسم موارد النيل، على أنْ تأخذ مصر النصيب الأكبر، دون إشارة إلى أيّ من دول حوض النيل التسع الأخرى، بما فيها إثيوبيا، منبع النيل الأزرق.
ويضخّ النيل الأزرق، الذي يلتقي النيل الأبيض في العاصمة السودانية الخرطوم، نحو 80 في المئة من مياه النهر. وترى إثيوبيا أنه من “الظلم التاريخي” ألا تستطيع الانتفاع من هذا المورد الطبيعي، على حدّ قول زيريهون أبيبي.
ويضيف أبيبي: “إذا وافقت إثيوبيا على السماح بمرور كمية محددة من المياه إلى مصر كل عام، فإن ذلك كفيل بـ “تأكيد امتيازٍ منحه الاستعمار لدولة المصب، مصر. وهو ما سيبدو كما لو كان نوعا جديدا من الاستعمار، وهو أمر غير مقبول”.
إن إثيوبيا، في جوهر موقفها، تتهم مصر بالرغبة في الاحتفاظ بما منحتها إياه معاهدة عام 1959.
وتقول إثيوبيا إنها في العام الثاني من أعوام الملء ستسمح بمرور ما لا يقل عن 31 مليار متر مكعب من المياه عبر السد، لكنْ بعد ذلك لا يمكنها التقيُّد بكمية محددة من المياه التي ستسمح بمرورها.
ويعني الالتزام بتمرير كمية محددة من المياه إلى مصر بغض النظر عن كمية الأمطار أن السد قد يتوقف عن أداء وظائفه المرجوّة في فترات الجفاف.
أما في مصر فيسود قلق من مسألة عدم معرفة كمية المياه التي سترِد إليها.
أُمتّان وحّدهما السدّ
إن احتداد اللغط بعد تسع سنوات من المفاوضات قد يعكس حقيقةَ أننا إزاء المشهد الأخير من العملية السياسية، أكثر مما يعكس أننا إزاء فجوة يتعذر جَسْرها، أو أن الأمور ستهدأ عمّا قريب.
لكن كلا من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لديهما اعتبارات سياسية داخلية وشعوب باتت تستثمر بقوة في هذه القضية.
في إثيوبيا، يستثمر الناس حرفيا في السد؛ حيث أسهم إثيوبيون في الداخل والخارج بـ أربعة مليارات دولار قيمة سندات أغْرتهم الحكومة بشرائها.
وفي وقتٍ يواجه فيه آبي أحمد تحديات سياسية حطّت من شعبيته، يبقى السد قضيةً قادرةً على جمع رأي الشعوب الإثيوبية.
في ظل ذلك، لجأ البعض إلى منصات التواصل الاجتماعي للإشارة إلى القضية ونشروا مقاطع فيديو مستعينين بأكواب وأباريق مياه.
أحد هذه المقاطع حقق انتشارا واسعا، وتظهر فيه امرأةٌ تمسك إبريقا ممثلة دور إثيوبيا، وتصب المياه في كوبين صغيرين قائلة إن بلدها تتحكم في زمام الأمور.
وخرج المصريون بمقاطعهم المصورة أيضا على مواقع الإنترنت، ويشير أحدها إلى أن السدّ ليس مُحصّنا ضد الهجوم.
لكن الإعلام المصري، بوجه عام، يدعم الحكومة في مفاوضاتها بشأن السد، مع بعض قنوات إعلامية تتهم إثيوبيا بعدم التعاون لتجاوز الأزمة.
وإذا كان الإعلام في كلتا الدولتين قد ينحو إلى التهويل، فإن مهمة الدبلوماسيين هي محاولة تهدئة الأمور، وهو ما لم يتضح بعد ما إذا كان المعنيون بالمفاوضات يقومون به.