الرئيسيةثقافة وفن

صناعة الإرهاب في خطاب القرضاوي.. قراءة في كتاب ”جيل النصر المنشود”

ينطلق يوسف القرضاوي في كتابه ”جيل النصر المنشود” من رؤية سوداوية إلى الواقع الرّاهن للمسلمين، ويصوّر حجم التأزّم والنّكوص، والضّلال الذي يرى أنّه يسود هذا الواقع، ويؤدّي به إلى الهزائم والانحراف عن ”المثال الإسلامي”، ويحدد ”قوانين النصر المنشود” في ثلاثة؛ ويبين أنّها جميعاً مسجّلة في القرآن؛ وهي: أنّ ”النصر من عند الله”، وأنّ ”الله لا ينصر إلا من نصره”، وأن ”النصر لا يكون إلا بالمؤمنين”، ويرسم من ثم ملامح أولئك المؤمنين؛ أي من يسمّيهم ”جيل الدّعوة والجهاد، الذي سيعيد الأمة إلى مسارها الصّحيح”، والذي سيعود بالإسلام إلى ”ينابيعه الصّافية” التي تتحدّد معالمها في حيّز الإسلام الأول الذي نزل به القرآن ودعا إليه الرسول وآمن به أصحابه، والأوصاف التي يقدّمها القرضاوي لهذا الجيل المنشود لا تكاد تنتهي على امتداد هذا الكتيّب الصّغير الأشبه بخطبة مسجدية مسترسلة، يطغى على نصّها الاستشهاد بالقرآن والحديث وأحداث فترة النبوّة، كما أنّها لا تكاد تخرج عن النّمذجة المبالغ فيها.

الإخوان هم الجيل المنشود!

ويؤكّد القرضاوي على الهوية الإخوانية التي ينتمي إليها، ويعتبر أن الإخوان المسلمين في الزمن الحاضر هم النّظير المماثل للصّحابة في زمن النبوّة، ويقول إنّ همَّ المصلحين الإسلاميين الواعين أن ينشأ في الأمّة جيل مسلم مؤمن جديد يستحق أن يسمّى ”جيل النّصر” الذي يؤمن بأنّ العمل الجماعي لنصرة الإسلام واستعادة سلطانه فريضة وضرورة؛ ”فريضة يوجبها الدّين وضرورة يحتمها الواقع”؛ فللجماعة الإسلامية في تقدير القرضاوي مكانة كبرى تجعله لا يرى بناء ”الجيل المنشود” بعيداً عنها، بل يعتبر أنّ ”إصلاح الفرد لا يتم إلا في ظل جماعة يعيش في كنفها

فكما أنّ النبي بدأ دعوته بتغيير العقائد السائدة في المجتمع القبلي الذي ظهر فيه، وتكوين ”الجماعة المؤمنة” التي حملت لواء التغيير بالسيف، ومارست السياسة عبر امتلاك السلطة وتأسيس الدولة الإسلامية، فإن ما تفضي إليه أفكار القرضاوي من خلال هذا الكتيّب لا يخرج عن الالتزام بالتمشي ذاته دون إعادة فهم أو قراءة، ودون أي اختلاف أو تنسيب، ولكن مع كثير من الانتقاء؛ فالمنظومة الإسلامية التي يمثلها القرضاوي، هي منظومة تعيش حالة من التكرار والثبات، وتنشدّ إلى جزء من الماضي وتحاول استعادته في الحاضر والعيش فيه.

وليس ”الجيل المنشود” في ذهن القرضاوي سوى شخوص قائمة على أنماط مكرّرة ومشوّهة لنماذج إسلامية بعينها. فلو نظرنا في تاريخ الصّحابة، سنجد في سيرهم نجاحات وإخفاقات، وصراعات فيما بينهم، وانتصارات وهزائم، وظالماً ومظلوماً وقاتلاً ومقتولاً… ولكن القرضاوي يجعل منهم رموزاً للاقتداء، خاصة في الجوانب الحربية والقتالية التي وسمت تاريخهم التي يراها فاعلة في صناعة الجيل المنشود، ويرى أنّ على هذا الجيل أن يحمل من روحهم ”في مقاومة الردّة وحرب المرتدّين”، ويعمدُ إلى ذكر شخصيات لها سمات حربية وقتالية بأسلوب انتقائي واضح، ويستحضر أياماً ”كيوم خالد في اليرموك أو سعد في القادسية، أو عمرو في أجنادين…”، ويعتبر أنّ روحهم القتالية مجبولة بروح الصّحابة، وأنّهم لمحات مضيئة لا بد من استعادتها في شكلها الأكثر عنفاً وبطشاً، من أجل إعادة أسلمة المجتمع المعاصر.

الوصول إلى السّلطة

وتكون أسلمة المجتمع بحسب هذا الخطاب أوّلاً، ويليها بعد ذلك السّيطرة على الحُكّام ومحاولة امتلاك السّلطة، وإخضاع المجتمع لمسلّمات عقائدية وفكريّة تفضي به إلى الشكل النّهائي للمجتمع الإسلامي الذي يتحدّد بواسطة الدّولة الإسلامية المنشودة، ولعل الخطر الذي ينطوي عليه هذا الخطاب يتبيّن بوضوح في مستوى الغايات والمقاصد التي يقوم عليها فهم القرضاوي للمجتمع والوسائل التي يطرحها لتغييره، والصّورة النّهائية التي سيكون عليها المجتمع الإسلامي ومن ثم الدولة الإسلامية، وهي من دون شكّ صورة مرعبة إذا ما تمثّلنا حجم العنف المعنوي والمادي الذي تنطوي عليه.

فأسلمة المجتمع تمر وجوباً عبر اعتماد أحكام الشّريعة وتطبيقها في المجتمع والدّولة، انطلاقاً من القول بأنّ ”الشريعة هي المنهاج والقرآن هو الدستور”، فلا اعتبار مطلقاً لدى القرضاوي لمنهاج أو شريعة من وضع بشر مثله. ولا نعرف ما إذا كان هذا الطّرح الذي يقدمه يستبطن طرقاً ما لكيفيات استنباط تلك الأحكام في المجتمع، ومن سيقوم بذلك ومن سيتولى الحكم بها؛ فعندما نقول إنّ القرآن هو الدّستور، فذلك يعني أن نتجاهل أنّه نزل بلغة بشرية تحتمل تعدّد القراءة وتعدّد الفهم والتّأويل، وأنّ إصدار الأحكام منه لا بد أن يمر بتدخّل بشري، وأنّ أحكام الشّريعة المستنبطة من القرآن لا يمكن أن تكون إلهية مطلقاً، وأنّ مقولة ”إن الحكم إلا لله وحده” إنّما هي مطيّة يحمّلها القرضاوي أهواءه العنفيّة والتسلّطية من أجل الهيمنة.

تكفير العلمانية

ويهاجم بناء على ذلك العلمانية، وينسبها إلى النّخب اللادينية، ويعتبرها نوعاً من الاستعمار الثّقافي الذي يعزل الشّعوب عن دينها، ويحشو أذهانها بمفاهيم خاطئة عن الإسلام وشريعته وتاريخه وأمّته، ويرى أنها مؤامرة الهدف منها منع الدّين من أن يقود الحياة أو يتدخّل في المجتمع بالتّشريع أو التّوجيه أو التنفيذ. ولا يخفى أنّ فهم القرضاوي للعلمانية فهم موجّه يغلب عليه التّضليل والمغالطة، فالعلمانية لا تفصل الشعوب عن دينها وإنّما هي فصل بين الدين والسّياسة. ولذلك فالقرضاوي لا يكفّر العلمانيين فحسب؛ بل كل من لا يقولون بالدولة الدينية، سواء كانوا شيوعيين أم ليبراليين أم غيرهم… ويرميهم بالفجور والإلحاد، والتّآمر على الأمّة وعلى الدّين، ويعتبرهم مرتدّين عن الإسلام، ومن ثم يوجب أن تطبّق عليهم حدود الردّة.

ويبدو جلياً في خطاب القرضاوي سعيه إلى بعث الفرقة في النّسيج المجتمعي عبر استغلال الاختلافات الاجتماعية والعقائدية والتّأسيس عليها؛ من خلال تعميق الخلاف بين أفراد المجتمع، وتقسيمه إلى مؤمنين وكفّار… لينتهي إلى إحداث شكل من التّدافع القائم على الفرز الأيديولوجي؛ وبالتّالي فخطابه يهيئ المنطلقات اللازمة للتناحر والتّقاتل والاحتراب الدّاخلي بين أفراد المجتمع الواحد والتحكّم فيه والعمل على تخضيعه بالقهر والعنف والإرهاب.

”جيل معارك لا تنتهي”

كما يهاجم القرضاوي حكّام المسلمين استناداً إلى الاعتبار نفسه القائل بالمؤامرة، ويرى أنّهم بحكم نشأتهم وتربيتهم ومصالحهم وولاءاتهم، مرتبطون بالمعسكرات المعادية للإسلام، وأنّهم لهذا ”يخشون من حُكمه أن يعود، ويخافون من تعاليمه أن تسود وتقود”، ولا ينفكّ يصفهم بـ ”الطّاغوت”، ويدعو إلى الجيل المنشود الذي سيخرج عليهم وسيقاوم ظلمهم… والحقيقة أنّ القرضاوي لا يدعو إلى حكّام أقل ظلماً ولا أقل بطشاً، فلا تبدو تلك غايات خطابه في هذا الكتيّب، وهو لذلك لا يتحدّث عن صفات بعينها لحاكم ما، عدا أن يكون متوافقاً مع شروط الدّولة الدينية، ومردّ ذلك أنّه لا يرى لهذه الدّولة حدوداً قطريّة، وإنّما هي مفهوم شامل يخترق الكيانات الضيّقة وحدود الدّول القائمة.

لذلك فمفهوم الصّحوة الإسلامية المنشودة يتجاوز حدود الصّراع الضيّق على الهيمنة واكتساب السّلطة في الدّولة الواحدة، نحو التوسّع اللانهائي لقاعدة الصّراع والعنف، ليشمل الدّول والكيانات السّياسية المخالفة، وبالتّالي يستعيد القرضاوي التّاريخ التوسّعي للدولة الإسلامية، ويجعل من مهام الجيل المنشود أن يدير الصّراع على مستويات متعدّدة في الدّاخل والخارج؛ فهو كما يصفه ”جيل معارك لا تنتهي” وهو جيل ”صراع متواصل مع الفجرة في الدّاخل والكفرة في الخارج” و”أرض الله كلّها ميدانه”، ويرى القرضاوي الجهاد فرضاً على المسلمين جميعاً ”يجاهدون في سبيل الله في كل معركة تطلبهم وبكل سلاح يمكنهم، قد يكون باليد إذا كان لا بد من اليد تحمل المدفع، وقد يكون بالمال إذا احتاج الجهاد إلى المال، وما أحوج الجهاد إلى المال”.

الوسطية الكاذبة

منطق الجهاد والقتال والتكفير هو الذي يحكم خطاب القرضاوي ويوجّهه إلى صناعة جيل أشبه ما يكون بالقنبلة الموقوتة أو العبوّة النّاسفة التي يمكن أن تنفجر في وجه المسلمين أنفسهم، كما يمكن أن تنفجر في وجه العالم في أي لحظة ومن أيّ مكان.

من المؤكّد أنّ خطاباً بمثل هذا المحتوى العنفي والظلامي، وبمثل هذه الأهداف التوسّعية المكشوفة، يمثّل تهديداً خطيراً للأمن الداخلي للدّول سواء كانت إسلامية أو أجنبية، ولكنه رغم ذلك يحافظ على وجوده وعلى استمراره، ورغم معاداته الشديدة للحداثة فإنه يستفيد من آخر منتجاتها الاتّصالية، كما يستفيد من تغيّر موازين النفوذ العالمي، وقد شهد العالم وما يزال عمق أثره في الواقع، وقدرته على الاستقطاب وعلى التأثير، ولعلنا بإعادة قراءة هذا الكتيّب ”جيل النصر المنشود” نساهم في كشف الصورة الحقيقية لهذا الخطاب من داخله؛ وهي صورة بعيدة كل البعد عمّا يسوّق إعلامياً عن وسطيّة القرضاوي واعتداله، فيكفي أن نتساءل ما الذي يميّز أشد الظواهر الإسلامية عنفاً وأكثرها إرهاباً في العالم، من أمثال ”القاعدة” و”طالبان” و”داعش” و” جبهة النصرة”… عن ”جيل النصر المنشود” الذي ينادي به القرضاوي في هذا الكتيّب؟ لنكتشف ألا اختلاف بين هذا وأولئك على الإطلاق، ولا يعدو القرضاوي بوسطيّته المتطرّفة الكاذبة في اعتدالها في النهاية إلا أن يكون واجهة أخرى لحالة بن لادن، والزرقاوي والبغدادي وأمثالهم

*نقلا عن موقع حفريات

زر الذهاب إلى الأعلى