كتب – نضال قوشحة
حضر الشعر السياسي العربي الحديث في الحياة العربية بشكل فاعل على المستوى الأدبي والشعبي، ولمعت فيه أشعار وأسماء، وكثيرا ما تداول الناس في أواسط القرن العشرين وما تلاها أخبارا عن قصائد شعرية سياسية، كانت تنشر على صفحات الجرائد أو تلقى في المنابر، لتمر إلى جلسات البرلمانات وتنتهي بفترات اعتقال يقضيها الشعراء في سجون السلطة. فهل ما زال الشعر السياسي العربي على حاله.. في عصر الفضائيات والإنترنت والتفتت والضعف السياسي العربي؟
لم تأتلف العلاقة يوما بين السياسي والشعري، فهي ملتبسة وغامضة، وغالبا ما يتضادان ويتصارعان، وقليلا ما يتقاربان، فعبر التاريخ تجاذبت حياة الناس اختلافات وصراعات وصلت إلى حدود العنف النفسي والجسدي. وبحكم أن الأطراف المتحاربة تحمل رؤى متضاربة فإنها تتخندق في منظومات فكرية محددة، تتراشق من خلالها مع الآخر. ومع وجود الفنون وخاصة منها الشعر، سخر الإنسان إياه ليكون أحد الأسلحة التي يبين من خلالها رؤاه وفكره.
عربيا، يثبت لنا التاريخ الأدبي أن الشعر السياسي كان موجودا منذ أن عرف الشعر. ففي مرحلة الجاهلية كان الشعر لسان حال بعض القبائل المتحاربة التي تعتبره أداة للدفاع عن نفسها والتصدي للخصوم. لذلك كان الشاعر الفارس دريد بن الصمة يقول موضحا بكونه منتميا إلى درجة التماهي مع قبيلته سواء في الغي أو الرشد: وما أنا إلا من غزية إن غوت/ غويت وإن ترشد غزية أرشد.
ومع مرحلة صدر الإسلام صار الشعر السياسي أوضح وباتت له مكانة في الدفاع عن الإسلام ضد خصومه خاصة في وقت الحروب. وكانت للشعر السياسي في التاريخ العربي قفزة نوعية في فترة الدولة الأموية، والصراعات الدموية التي نشأت والتصادمات الفكرية العنيفة التي صدعت الوحدة السياسية العربية والإسلامية حينها. فذهب كل فريق إلى جلب شعراء يقفون معه ليكونوا صوته المسموع في الصراع الفكري وحتى الحربي العسكري.
ومع وجود الفرق والطوائف والجماعات والنحل كان لكل منهم خطه الشعري السياسي الخاص به. واستمر ذلك في عصر الدولة العباسية وإن كان بزخم أقل. وظلت الأصوات الشعرية الهامة تصدح بين فترة وأخرى، كما قال المتنبي في عصر سياسي عربي مضطرب منتقدا هيمنة الأعاجم على الحكام العرب واستلاب إرادتهم: وَإِنَّما الناسُ بِالمُلوكِ/ وَما تُفلحُ عُربٌ ملوكُها عَجَمُ/ لا أَدَبٌ عِندهُم وَلا حَسَبٌ/ وَلا عُهودٌ لَهُم وَلا ذِمَمُ.
مواقف الشعراء
الشعر السياسي الحديث لم يكن موجها ضد الآخر، قوميا أو دينيا، بل كان موجها من الشعراء إلى حكام أوطانهم
في العصر الحديث، ومع وجود حركات التحرر العربية ضد قوى الاحتلال، كان للشعر السياسي وجود هام، وكان أحد الأشكال التي تبنتها الشعوب في مقارعة قوى الاستعمار، وظهرت أسماء شعرية عربية هامة على امتداد العالم العربي، مثل معروف الرصافي، حافظ إبراهيم، عمر أبوريشة، أبوالقاسم الشابي، أحمد شوقي، الأخطل الصغير، نزار قباني وغيرهم. وبالطبع كان للقضية الفلسطينية وضع خاص، لكونها الوحيدة التي ظلت نازفة فظهر فيها العديد من الشعراء الكبار مثل إبراهيم طوقان، محمود درويش، سميح القاسم وغيرهم.
وإضافة إلى كل ذلك، وجد في العصر الحديث شعر سياسي لم يكن موجها ضد الآخر، قوميا أو دينيا.. بل كان موجها من هؤلاء الشعراء إلى حكام أوطانهم بعيدا عن انتماءاتهم السياسية. فمعظم حكام الوطن العربي في العصر الحديث من الذين ساهموا وصنعوا أوضاعا سياسية واجتماعية قلقة في بلدانهم، نتيجة الحكم الشمولي السلطوي، وهذا ما أوجد طيفا من المشكلات الاجتماعية المختلفة في الحكم والسلطة والحياة العامة والحريات، الأمر الذي دفع بالشعراء إلى الكتابة عن تلك المواجع بتهكم وسخرية حينا وسب وشتم حينا آخر، تلميحا مرة وصراحة مرات.
كان طبيعيا، ألّا يقف الجميع على مبدأ واحد من حيث تقبلهم لفكرة وجود الشعر السياسي، ما دفع بعض الشعراء والأدباء والمفكرين إلى رفضه. وبعضهم كان على رأي الشاعر السوري أدونيس الذي طلب في كتابه الشهير “زمن الشعر” ألّا يكون الشعر سياسيا مؤدلجا وأن يكون ثمة فصل بين الشعر والسياسة، لأن الشعر يجب أن يكون خارج التأطير في نهج فكري محدد. وبحسب رأيه فإن الشعر يجب أن يبقى ضمن إطار الشرط الفني الجمالي.
أما الشاعر الشهير نزار قباني الذي كتب الشعر السياسي وكانت له فيه حروب شهيرة، فيقول في حديث للصحافي فاروق جويدة «ليتني ما عشت زمن القبح، وليتني ما كتبت شيئا في هجاء الواقع السياسي العربي، إن أكثر الأشياء التي تسيء للشعر قربه من السياسة، لأنه أحيانا يتحول إلى منشورات ودعوات أيديولوجية. كنت أتمنَّى أن أظل مغردا في عالم الحب، لأن شعر الحب لا يفنى، ولكنني أشك في أن تبقى قصائد السياسة.. أعترف بأنني نادم على شعري السياسي».
وسار بعض النقاد على أن صناعة الشعر كفعل إبداعي في حد ذاته هو سياسة، لكون الشاعر يفعل ذلك من خلال موقف حياتي محدد سيكون مبنيا على موقف سياسي محدد، وبذلك ذهبوا إلى رفض فكرة تصنيف الشعر إلى وطني وعاطفي وذاتي وغيره.
الشاعر العراقي عدنان الصائغ الذي دخل معترك الشعر السياسي يقول “لقد كانت فكرة الاستعانة بفن الخطاب المستتر وسيلة ناجعة في البداية. ووجدتُ فيها إغراء في المغامرة والتحدي والإبداع معا. خاصة وأن مقص الرقيب الحديدي لم يكن يترك لنا أقلّ فسحة لنطل برؤوسنا الضاجة خارج ما هو مسموح به”.
وجلّ النقاد والعاملين في مجال الشعر يرون أنه لا يمكن الفصل بين الشاعر وما ينتجه لكون هذا الشعر ناجما عن ذهنية فكرية محددة لا بد أنها مبنية على توجهات معرفية ووجدانية ابتناها الشاعر من خلال مواقف حياتية ووجهات نظر له فيها تتعلق بمواضيع عامة كقيم عليا في المجتمع من حرية ومعرفة وعمل ومساواة وغيرها.
مناوشات شعرية
حصل الصدام بين الحكام والشعراء، فكانت السجون ساحات سجالٍ بينهما، وكذلك الصحافة والمنابر الإعلامية، وتمترس كل في حصنه، هذا بعسسه وذاك بكلماته وبدأت المعركة التي لم تنته حتى يومنا هذا. أصوات شهيرة ارتفعت تقاوم سلطة الحاكم وتدك حصونه شعرا، كان منهم مصطفى لطفي المنفلوطي الذي قال في هجاء حاكم مصر الخديوي عباس يوما: قدوم ولكن لا أقول سعيد/ وملك وإن طال المدى سيبيد/ رحلت ووجه الناس بالبشر باسم/ وعدت وحزن في القلوب شديد.
وفي مرحلة لاحقة كتب الشاعر نزار قباني قصيدته الشهيرة السيرة الذاتية لسياف عربي، وكانت تزيد عن المئة وخمسين بيتا، وراجت في كل أرجاء العالم العربي وتابعها السياسي والأديب والمواطن العادي. هذه القصيدة كانت سببا في منع دخول نزار قباني عددا من البلدان العربية الأمر الذي استمر لسنوات. يقول فيها قباني بنبرة تحد كبيرة للحاكم العربي وهو يصف ما يقوم به أي واحد منهم في بلده:
أيّها الناسُ/ أنا الأوّلُ والأعدَلُ/ والأجملُ، من بينِ جميعِ الحاكمينْ/ وأنا بدرُ الدُجى، وبياضُ الياسمينْ/ وأنا مخترعُ المشنقةِ الأولى../ وخيرُ المرسلينْ/ كلّما فكّرتُ أن أعتزلَ السُّلطةَ،/ ينهاني ضميري../ مَن تُرى يحكمُ بعدي هؤلاءِ الطيّبينْ؟
وفي قصيدة أخرى بعنوان “الممثلون”، يتهكم قباني على كل الحكام العرب، وعلى التباكي الذي صنعوه بعد هزيمة يونيو 1967، حيث يقول فيها:
حرب حزيران انتهت فكلُّ حربٍ بعدَها، ونحنُ طيّبونْ/ أخبارُنا جيّدةٌ وحالُنا ـ والحمدُ للهِ على أحسنِ ما يكونْ/ جمرُ النراجيلِ… على أحسنِ ما يكونْ/ وطاولاتُ الزّهرِ ما زالتْ على أحسنِ ما يكونْ/ والقمرُ المزروعُ في سمائِنا مدَوَّرُ الوجهِ على أحسنِ ما يكونْ/ وصوتُ فيروزَ من الفردوسِ يأتي: نحنُ راجعونْ/ تغَلْغَلَ اليهودُ في ثيابِنا، و”نحنُ راجِعونْ “/ صاروا على مِترَينْ من أبوابِنا، و”نحنُ راجِعونْ”/ ناموا على فراشِنا، و”نحنُ راجِعونْ”/ وكلُّ ما نملكُ أن نقولَهُ: إنّا إلى الله لَراجعونْ.
في جانب آخر، وفي العراق، يصدر صوت عالي النبرة، قدم سجالات شهيرة في الشعر السياسي المقاوم للسلطة العربية بكل أشكالها. الشاعر أحمد مطر، الذي عمل مطولا من خلال صحيفة القبس الكويتية في ثمانينات القرن الماضي وكان يكتب في الصفحة الأولى قصائد تحمل روح التمرد والتهكم على الحاكم العربي والمجتمع العربي، وكان ينشرها تحت اسم لافتة.
وكان شريكه في الصحيفة حينها الفنان الفلسطيني ناجي العلي الذي كان يقدم رسوماته الناقدة في الصفحة الأخيرة. يكتب أحمد مطر في لافتته الأولى في صحيفة القبس عام 1980، قصيدة بعنوان قصة عباس تهكم فيها على صدق الحكام والمعنيين بحماية الوطن وما يقومون به حقيقة في سبيل ذلك.
عَبّاسُ وَرَاءَ المِتْرَاسْ/ يَقِظٌ مُنْتَبِهٌ حَسَّاسْ/ مُنْذُ سِنِينِ الفَتْحِ يُلَمِّعُ سَيْفَهْ/ وَيُلَمِّعُ شَارِبَهُ أَيْضَا.. مُنْتَظِرا مُحْتَضِنا دُفَّهْ/ بَلَعَ السَّارِقُ “ضفّةْ”/ قَلَّبَ عَبَّاسُ القِرْطَاسْ/ ضَرَبَ الأَخْمَاسَ لأَسْدَاسْ/ بَقِيَتْ “ضفَّةْ”/ لَمْلَمَ عَبَّاسُ ذَخِيْرَتَهُ وَالمِتْراسْ/ وَمَضَى يَصْقلُ سَيْفَهْ/ عَبَرَ اللِّصُّ إِلَيْهِ وَحَلَّ بِبَيْتِهْ/ أَصْبَحَ “ضَيْفَهْ”/ قَدَّمَ عَبَّاسُ لَهُ القَهْوَةْ.. وَمَضَى يَصْقِلُ سَيْفَهْ/ صَرَخَتْ زَوْجَتهُ: عَبَّاسْ../ ضَيْفُكَ رَاوَدَني عَبَّاسْ/ أَبْنَاؤُكَ قَتْلى عَبَّاسْ/ قُمْ أَنْقِذْني يَا عَبَّاسْ/ عَبَّاسُ اليَقِظُ الحَسَّاسْ مُنْتَبِهٌ لَمْ يَسْمَعْ شَيْئا/ زَوْجَتُهُ تَغْتَابُ النَّاسْ/ صَرَخَتْ زَوْجَتُهُ: عَبَّاسْ/ الضَّيْفُ سَيَسْرِقُ نَعْجَتَنَا/ قَلَّبَ عَبَّاسُ القِرْطَاسْ/ ضَرَبَ الأَخْمَاسَ لأَسْداسْ/ أَرْسَلَ بَرْقِيَّةَ تَهْدِيدْ/ فَلِمَنْ تَصْقُلُ سَيْفَكَ يَا عَبَّاسْ/ لِوَقْتِ الشِّدَّةْ/ اصْقُلْ سَيْفَكَ يَا عَبَّاسْ.
ولم يكتف أحمد مطر بذلك، بل سار أبعد فوصل تهكمه بالحكام إلى فضح ما تقوم به الدول الكبرى في سبيل تعيين عدد من الحكام الذين هم أدواتها في حكم شعوب المنطقة ولو كانوا لا يصلحون. يكتب مطر في قصيدة تبديل الأدوار.
رأت الدول الكبرى تبديل الأدوار/ فأقرت إعفاء الوالي/ واقترحت تعيين حمار/ ولدى توقيع الإقرار نهقت كل حمير الدنيا باستنكار:/ إن حموريتنا تأبى أن يلحقنا هذا العار.
الأفول والانحدار
بعد هذا التاريخ الطويل من وجود الشعر السياسي خاصة ما كان ضد السلطة، فإننا نتساءل اليوم عن السبب في أفول نجم هذا الشعر، فقامات كأبي القاسم الشابي والرصافي وقباني ومطر ومظفر النواب، وتجربة أحمد فؤاد نجم في الشعر العامي والتي حققت رواجا كبيرا خاصة عندما تعاون مع المغني الشيخ إمام أو محمود درويش ومارسيل خليفة كلها تجارب لم تتكرر أو تتواصل.
بقيت الساحة فارغة إلا من بعض المحاولات الفردية هنا وهناك. فالثابت أن الشعر السياسي الذي واجه السلطة وحاربها، قلّ في العقدين الأخيرن لأسباب شتى. فمشاهير هذا الشعر رحلوا عن الدنيا أو عن أوطانهم وعاشوا في مدن خارج الوطن العربي، مثل لندن التي عاش فيها نزار قباني وأحمد مطر وناجي العلي وغيرها من المدن الأوروبية.
ولم يبق لمن بقي منهم إلا استذكار ماضيهم الثائر وسط عزلة العمر والجغرافيا. وربما كان لواقع وجود البرامج السياسية الحوارية العديدة التي تقدمها قنوات متخصصة أثر في هذا التراجع حيث ظهرت في هذه البرامج قامات فكرية وإعلامية قامت بانتقاد السلطات العربية في الوطن العربي بشكل حادّ وقاس وبأشكال جدية أو ساخرة ومتهكمة، الأمر الذي كان يفعله سابقا شعراء السياسة.
وربما كان أفول نجم الشعر السياسي عائدا أيضا إلى حجم التراجع الجمالي العام وتراجع الإقبال على الشعر والفنون من قبل المواطن العربي الذي تم سحقه بآلاف محطات الكليبات والقنوات الدينية المزورة، وهذا ما أفقد الأجيال العربية الجديدة القدرة على تذوق هذا النمط الشعري الذي كان رائجا في فترة هامة من تاريخ العرب الحديث.
*كاتب سوري